story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

سمّ فرنسي ومحقنة جزائرية

ص ص

مشهد فرجوي جديد عشناه مساء الخميس 25 يوليوز 2024، عندما أصدرت وزارة الخارجية الجزائرية بلاغا رسميا عمّمته عبر موقعها ومنصاتها الرقمية، إلى جانب وكالة الأنباء الجزائرية تستنكر فيه قرارا فرنسيا وشيك الإعلان، يدعم موقف المغرب في الصحراء.
يتعلق الأمر بفرجة هزلية، بالنظر إلى كاريكاتورية المشهد: دولة أولى تعلن قرار دولة ثانية بينما الأمر يهمّ دولة ثالثة.
الجارة الشرقية قالت في بلاغها الرسمي إنها تلقّت إخبارا رسميا من جانب فرنسا، بكون هذه الأخيرة تنوي تقديم دعم “لا يشوبه لبس” لمخط الحكم الذاتي، “في إطار السيادة المغربية”.
وقبل وبعد هذا الإخبار الذي تفضّلت علينا به، مشكورة، الجارة الجزائر، راح البلاغ يرغد ويزبد ويستنكر ويندد.
وفي الوقت الذي ارتفعت فيه نسبة مشاهدة قناة “LCI ” الفرنسية التي كانت قد أعلنت في اليوم نفسه استضافتها لوزير الخارجية الفرنسي، ستيفان سيجورني، حلّق هذا الأخير في مقابلته التلفزيونية بعيدا عن السماء المغاربية.
الوزير الفرنسي تحدث عن الملفات الكبرى التي تهمّ الفرنسيين في مجال اختصاصه، بما في ذلك نتائج الانتخابات الأخيرة ومستقبل الاتحاد الأوربي وآفاق الحرب في أكرانيا، والقضية الفلسطينية… وعندما انتهت المقابلة ولم تحمل لنا جديدا، وجدنا الخارجية الجزائرية وقد حذفت الصفحة التي كانت تتضمن البلاغ من موقعها الرسمي.
البعد الفرجوي عندنا تجسّد في الاتجاه الذي أخذه النقاش عبر منصات التواصل الاجتماعي. بعض “العلماء” لم يجدوا في الخطوة أكثر من “عيب” شكلي يتمثل في عدم احترام الأعراف الدبلوماسية، وتطاول الجزائر على فرنسا واستباق إعلانها لهذا الموقف المتوقّع وشبه الحتمي.
انحرف النقاش نحو وجهة يخال معها المرء أن العلاقات الدولية في وقتنا الراهن “كيوت” ورومانسية، تقدّس الأعراف والبروتوكولات و”الإتيكيت”… بينما نعيش في الواقع لحظة توحّش الدول وانزياحها نحو الانفلات من كل ضابط قانوني أو عرفي، وإمعانها في تبادل الضربات فوق وتحجت الحزام، والزج ببعضها البعض في الحروب والكوارث، وعدم التردد في تغذية المواجهات الدموية التي تفتك بالمدنيين والأطفال… بقات لنا غير الأعراف الدبلوماسية!
الحقيقة أننا أمام وثيقة رسمية وموثّقة صادرة عن وزارة خارجية دولة قائمة ومعترف بها دوليا اسمها الجزائر، تخبرنا أن فرنسا بادرت إلى إبلاغ سلطات هذه الدولة بنيّتها الإقدام على خطوة تدعم موقف المغرب في الصحراء.
وما لم يصدر تكذيب أو نفي عن فرنسا، فهذه معلومة صحيحة، يجدر بنا أخذها لتطوير تحليلاتنا وقراءاتنا وترك موضوع الأعراف و”الصواب” للبلدين المعنيين بهذه الشكليات.
ما يستحق منا تركيز الجهد والتفكير للفهم والتفسير، هو سياق و”مقابل” وانعكاسات هذا القرار الفرنسي الجديد من جهة، ثم دواعي إقدام باريس على إخبار الجزائر بشكل مسبق بخطوة مرتقبة منذ شهور، وتحديدا منذ نهاية العام 2023 حين حدث انفراج ضمني في أزمة صامتة بين المغرب وفرنسا.
بالنسبة للسؤال الأول، لا شك أن أي تقدّم للموقف الفرنسي من ملف وحدتنا الترابية، هو ثمرة العمل الدبلوماسي الذي قام به المغرب في السنوات الأخيرة. ولا ريب أيضا أن الخطوة ستشكل، فور إعلانها رسميا، انتصارا للمقاربة الرسمية التي اختارتها الدولة المغربية منذ خمس سنوات على الأقل، والقائمة على الضغط ولعب الأوراق السياسية والاقتصادية والأمنية المتاحة، بما في ذلك التطبيع مع إسرائيل، لانتزاع خطوة أكثر تقدما من جانب “الحلفاء” الغربيين.
تململ الموقف الفرنسي عن جموده الطويل بات تحصيل حاصل منذ رفع المغرب حالة التوتّر الصامت، عبر الأذرع الإعلامية و”القوى الناعمة”، وسمح باستقبال وزير الخارجية الحالي، ستيفان سيجورني، للمغرب، بل وتعيينه أصلا من طرف الرئيس إيمانويل ماكرون بمهمة مركزية هي إنهاء الأزمة الصامتة مع المغرب.
ألم يقل الملك في خطاب رسمي إن ملف الصحراء هو “النظارة” التي ينظر من خلالها إلى العالم؟
وعندما تردّد السؤال بقوة حول قضية الصحراء في محيط وزير الخارجية الفرنسي خلال زيارته المغرب شهر فبراير 2024، كان الجواب الذي تم تسريبه هو أن أي تطوّر في هذا الملف يجب أن يُعلن علي مستوى رئيسي الدولتين.
وبمجرّد عودة الحياة إلى الاتصالات والزيارات الرسمية بين المغرب وفرنسا، انكشف جزء من عناصر “الصفقة” التي يفترض أن تتوّج بموقف فرنسي جديد في ملف الصحراء.
زخم كبير عرفته المصالح الفرنسية في المغرب خلال الشهور الماضية، سواء اقتصاديا وسياسيا أو ثقافيا وتعليميا.
لقد عادت اللغة الفرنسية إلى “عرشها” وانفرجت أسارير رواد الصالونات المخملية التي تحتضن “سفراء” الصداقة المغربية الفرنسية في الرباط والدار البيضاء ومراكش… وأعلنت الحكومة الفرنسية على لسان وزير ماليتها شهر أبريل 2024، القرار الاقتصادي الذي يعني ضمنيا بداية هضم باريس لموقف جديد في نزاع الصحراء، يتمثل في التعبير عن الاستعداد للمشاركة في تمويل خط كهرباء يربط العاصمة الاقتصادية للمغرب، الدار البيضاء، بعاصمة إقليم وادي الذهب في الصحراء المغربية، الداخلة.
أما عن السؤال الثاني، أي لماذا ستخبر فرنسا الجزائر بشكل مسبق بموقفها الجديد المرتقب في نزاع الصحراء؟ فإنه آخر سؤال يفترض فينا كمغاربة أن نطرحه، لأننا أكثر العارفين بحجم تورّط الجزائر في هذا النزاع.
وإذا كنا نعلم أن أبسط عربة مهترئة لا تستطيع مغادرة تندوف في اتجاه الجدار الرملي المغربي دون ضوء أخضر جزائري، فإن علينا أن نتوقّع بداهة أن أي تطوّر عميق في مسار النزاع ينبغي أن يدبّره “حلفاؤنا” مع الجزائر.
تدبير يتم في واضحة النهار طيلة الشهور الماضية، خاصة من جانب الدبلوماسية الأمريكية، عرّابة كل ما يجري من تحوّل في هذا الملف.
واشنطن التي لا يوجد شك في وقوفها خلف تململ الموقف الفرنسي، أو مساهمتها فيه بقوة على الأقل، لم تكفّ عن التواصل مع الجزائر، مزاوجة بين الضغط والطمأنة، لحمل جارتنا الشرقية على هضم الموقف الأمريكي الجديد الذي يميل كفة المغرب.
وإذا كانت واشنطن ب”جلال” قدرها احتاجت إلى جهد دبلوماسي كبير لتصريف موقفها هذا مع الجزائر، فيمكن أن نتخيّل الجهد المضاعف الذي تحتاجه فرنسا، وهي التي ترتبط بمصالح أكثر قيمة وتعقيدا مع الجزائر.
دعونا نقولها صريحة: نزاع الصحراء بما هو شوكة في قدمي المغرب منذ نصف قرن، هو تدبير وتخطيط وتوافق فرنسي-جزائري، وهناك أكثر من دليل وحجّة على ذلك.
إسبانيا وموريتانيا المعنيتان مباشرة بالملف وقد “تفاهمنا” معهما وانسحبا (تقريبا) من الموضوع، بينما بقي النزاع مستمرا والجرح داميا، لأن فرنسا خطّطت قديما لاقتلاع المغرب من جذوره الإفريقية، وكلّفت الدولة الجزائرية المتضخمة ترابيا، برعاية هذه الشوكة حتى لا تقتلع.
ومن حق الجزائر، الدولة والنظام، أن تخشى على مصيرها اليوم حين تطرق القوى الدولية المسيطرة على المنطقة بابها داعيا إلى المساهمة في نزع الشوكة، ولو جزئيا. فالنظام الجزائري يطالب ب”دور” ومهمة جديدة في المنطقة، تبقيه قائما، لأنه يخشى مواجهة لحظة نهاية الصلاحية وغياب الحاجة إلى “خدماته”.
السم في الأصل فرنسي، وبالتالي لا يمكن أن يكون الترياق إلا فرنسيا، وهو ما يدركه الأمريكيون جيّدا، كما يدلّ على ذلك الأرشيف الاستخباراتي الخارج من السرية.
وهذا “العقرب” الفرنسي يحتاج إلى الأداة (المحقنة) نفسها التي دسّ بها السمّ في خاصرة المغرب، لتمرير جرعة من الترياق، وإن كان مكرها أو تحت الضغط والخوف من عودة ترامب إلى البيت الأبيض.