story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

سلطان المقاومة المظلوم

ص ص

مما يميّز دورة هذه السنة من المعرض الدولي للنشر والكتاب المنظّم هذا الأسبوع في الرباط، ما يعرضه رواق دار الإحياء للنشر والتوزيع، من إصدارات جديدة أشرف عليها المؤرخ امحمد جبورون، وفي مقدّمتها إصداران يحملان توقيع واحد من سلاطين المغرب في العصر الحديث، هو السلطان مولاي عبد الحفيظ.

ولا يكتفي جبرون بتحقيق وطبع ونشر كل من كتاب “داء العطب قديم” و”إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر”، بل يؤطرهما بفكرة (أطروحة) مفادها مراجعة الموقع التاريخي لهذا السلطان، والتفكير في احتمال تعرّضه للظلم، وتحويله من زعيم وطني وإصلاحي ومقاوم، إلى ذلك السلطان الذ ي”باع المغرب” من خلال توقيعه معاهدة الحماية.

كثيرة هي الشخصيات التي مرّت في تاريخ المغرب دون أن نُعيرها ما يكفي من انتباه أو إنصاف. وأكثر منهم أولئك الذين حوّلهم التاريخ الرسمي إلى كباش فداء، حشرهم في خانة الخيانة، ثم طواهم كما تطوى أوراق المحاكمات السياسية التي تُكتب أحكامها قبل أن يُستمع إلى أقوال المتهم.

قد يكون السلطان عبد الحفيظ أحد هؤلاء الذين جرى تدبيج التهم في حقهم على هوى المنتصرين، دون أن يُعطى لهم حق الكلام أو الدفاع عن النفس. واليوم، وبدون ضجيج، يأتي المؤرخ امحمد جبرون، لينفض الغبار عن صوت ظلّ مكبوتا، ويقدّم للمغاربة فرصة نادرة لسماع رواية الرجل الذي وقّع على معاهدة الحماية، لا من أفواه غرمائه، بل على لسانه هو.

إن تحقيق كتابي “داء العطب قديم” و”إعلام الأفاضل والأكابر بما يقاسيه الفقير الصابر” لا يندرج فقط ضمن أعمال النشر التاريخي، بل يشكّل، في عمقه، مرافعة تأريخية جديدة.

فحين يفتح السلطان عبد الحفيظ قلبه وفكره ودفتر مواقفه، ليروي مسارا بالغ التعقيد، فإننا لا نقرأ مجرّد تبرير أو تنصل، بل ندخل إلى الزمن من نوافذه المغلقة، لنكتشف أن من نُعت بالتفريط، ربما كان في لحظة من اللحظات، حارسًا متألما لسيادة تتهاوى، ومُصلحا محبطا في وجه زحف الفساد وانهيار التماسك الداخلي.

ما قام به جبرون ليس عملا أكاديميا فقط، بل هو محاولة شجاعة لمساءلة الرواية الرسمية. تلك الرواية التي ظلت تقدّم الحماية الفرنسية كقدر محتوم، وتجرّد السلطان عبد الحفيظ من أي نية مقاومة أو مشروع إصلاحي، وتُسلمه إلى التاريخ كمجرّد ختم وُضع أسفل الوثيقة المشؤومة.

والحال أن نصوص السلطان، كما ينقلها إلينا جبرون، تسير بنا إلى ما وراء الصورة، إلى كواليس الرعب، إلى خيانات الداخل قبل ضغوط الخارج، إلى بلاد لا يحكمها سلطان بل تحكمها تحالفات القياد والبشاوات، وتنهشها الثورات والفتن، بينما الأساطيل الأجنبية ترسو على سواحلها كما ترسو الجوارح على الجسد الضعيف.

ما الذي يمكن أن يعنيه اليوم أن نستمع إلى مولاي عبد الحفيظ بعد أكثر من قرن على رحيله؟

الجواب في العبرة المضمَرة داخل ثنايا هذه النصوص: أن الدولة إذا لم تحتم بجبهتها الداخلية، إذا لم تبادر إلى الإصلاح قبل أن يفرضه الخارج، إذا لم تستثمر شرعيتها في إشراك الأمة بدل إخضاعها، فإنها تتحوّل في لحظة إلى غنيمة متاحة لكل طامع.

إن السلطان عبد الحفيظ، كما تصوره لنا مرافعاته الفكرية، لم يكن مجرد أمير انتهازي ركب موجة السخط الشعبي للإطاحة بأخيه عبد العزيز، بل كان رجل علم وتربية، صقلته مدارس فقهية ومجالس علمية، وحمل في وجدانه منذ شبابه هاجس الإصلاح والخشية من القادم.

بل إن كتابه “داء العطب قديم”، كما يوحي عنوانه، لا يتحدث عن نازلة سياسية فحسب، بل عن عطب بنيوي أصاب الجسد المغربي من الداخل، فاستحال على أي سلطان، مهما كانت نواياه، أن يُرمم مملكة تتنازعها الطوائف، ويتربّص بها الأجنبي، وتتآمر نخبتها القريبة مع الدخلاء.

إن التاريخ ليس محكمة تأبيد، وإنصاف الشخصيات التاريخية لا يعني بالضرورة تبرئتها، بل هو اعتراف بتعقيد اللحظة، وبأن الفاعلين السياسيين لا يُقاسون فقط بنتائجهم، بل بظروفهم وأحلامهم المنكوبة.

والمولى عبد الحفيظ، بحسب ما تكشفه هذه الوثائق، كان رجل دولة، أدرك متأخرا أنه يحكم أرضا انفلتت من يده قبل أن يعتلي العرش.

رجل اختار أقل الضررين، في زمن لا يُسمح فيه للضعفاء إلا بالاختيار بين موتين، ثم انسحب بهدوء، ليقضي ما تبقى من عمره بعيدا عن المنفى الفعلي، قريبا من المنفى الرمزي.

إن صوت مولاي عبد الحفيظ وقد خرج من بين دفّتي المخطوط ليخاطبنا من جديد، ينبغي أن يكون مناسبة وطنية لفتح النقاش حول كيفية قراءة تاريخنا. فلا جدوى من رفع الشعارات الوطنية ونحن نحاكم رموزنا وفق موازين استعمارية. ولا معنى لتدريس الوقائع التاريخية إذا لم نُعد تفكيكها بمنهج منصف، يُعيد للأموات حق الكلام، وللأحياء مسؤولية الاستماع.

وبهذا المعنى، يكون اجتهاد امحمد جبرون علامة مضيئة في ظلمة الإهمال الأكاديمي والكسل التأويلي. لا لأنه أخرج وثيقتين من العتمة فقط، بل لأنه أعاد إلينا سلطانا بوجه آخر، سلطانا لم يكن خائنا ولا بطلا، بل كان إنسانا في لحظة انهيار، يحاول إنقاذ ما تبقى، ولو بالانحناء للعاصفة.

ها هو التاريخ، مرة أخرى، يعلّمنا أن الاستقواء بالخارج يبدأ من اللحظة التي نفقد فيها تماسكنا الداخلي، وأن الدول لا تُستباح بأساطيل الأعداء، بل بفساد المقربين وخيانة النخب.

فليكن في صوت السلطان العائد إلينا درس لمن أراد أن يبني المستقبل دون أن يُكرر خطايا الماضي.