“كرة القدم والسياسة”: مونديال 1998.. إيران تفوز على “الشيطان الأكبر”

أسفرت قرعة كأس العالم في فرنسا عام 1998عن أكثر المواجهات المشحونة سياسيًّا، ففي حفل أُقيم في باريس في دجنبر 1997، سُحبت قرعة النهائيات فأسفرت عن وقوع ألمانيا ويوغوسلافيا وإيران والولايات المتحدة الأمريكية في مجموعة واحدة. وكان ذلك يعني أن المنتخبين الإيراني والأمريكي سيجدان نفسيهما في خط المواجهة الرياضية بعد أكثر من 19 سنة من العلاقات المتوترة وأشهر من النضال لاستعادة الاتفاق النووي، وكثير من الملفات السياسية والدبلوماسية المشحونة.
مباراة سياسية بامتياز
كانت نتائج قرعة المجموعة السادسة، هي آخر شيء يتمنى الاتحاد الدولي لكرة القدم “الفيفا” أن يحدث في مونديال فرنسا، وكان لدى المشجّعين شعور لا مفرّ منه، فقد كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران عدائية ومعقّدة منذ سقوط شاه إيران المدعوم من الولايات المتحدة، في أعقاب الثورة الإسلامية الإيرانية في البلاد عام 1979.
لذلك منذ لحظة الإعلان عن المواجهة الحتمية بين المنتخبَين، أحاطت الإيحاءات السياسية بالمباراة على الفور، ووصلت المواقف بين الدول إلى مستويات غير مسبوقة، وأثار المشجّعون والمحلِّلون ووسائل الإعلام وحتى المسؤولين الحكوميين الجدل حول من سيخرج منتصرًا، حتى عندما دعَت وزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت، إلى تحرُّك نحو علاقات طبيعية بين إيران والولايات المتحدة، هدّدَت الجماعات الإيرانية في المنفى المعارِضة للنظام الإسلامي بعرقلة المباراة.
بدت المباراة مثيرة للاهتمام بالنسبة إلى التوتر القومي والسياسي المتوقع مهما كانت النتيجة التي تحدث على أرض الملعب، ومع اقترابها لم يكن بالإمكان تجنُّب العنصر السياسي في أول مباراة لكرة القدم على الإطلاق بين البلدَين.
فرضت المواقف السياسية المتصلبة لكلا الجانبين نفسها بشكل كبير على الإستعداد للمباراة، والتي كان يُنظر إليها في البداية على أنها معركة أيديولوجيات بين “قوى الشيطان الأكبر” ورجال الدين المحافظين الذين يدعون في شعائرهم إلى “الموت لأمريكا”.
مجالات مختلفة للصراع
الصراع بين البلدين فرض نفسه بقوة على الساحة الدولية خلال فترة الثمانينات والتسعينات، لدرجة أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الإبن وصف إيران أنها جزء من “محور الشر”، وفي عام 1996 فرض بيل كلينتون حظرا على التجارة الأمريكية مع إيران، وبالنسبة إلى الحكام الإيرانيين، من ناحية أخرى، جسدت الولايات المتحدة الإمبريالية الغربية.
فكان لابد أن تدخل الرياضة حتما إلى قلب ذلك الخلاف السياسي المشحون، فعندما فاز المصارع الإيراني رسول خادم بميدالية أولمبية في الألعاب الصيفية في أطلانطا عام 1996، قال الرئيس الإيراني أكبر هاشمي رفسنجاني، إن المصارع رفع العلم الإيراني في “بيت الشيطان”.
وفي مؤتمر صحفي عقد في باريس قبل أيام من المباراة، اتهمت مجموعة من الإيرانيين المنفيين، الذين لعبوا مع منتخب بلادهم في كأس العالم في الأرجنتين عام 1978، النظامَ “الأصولي” بقتل قائد ذلك الفريق، حبيب خيبري، لأسباب سياسية عام 1984، وقالوا إنهم يعتقدون أن رجال الدين المحافظين الذين يتمتعون بالسلطة المطلقة في إيران سيستخدمون اللعبة لأغراض دعائية، بالطريقة التي استخدم بها أدولف هتلر دورة الألعاب الأولمبية الصيفية عام 1936 في برلين.
كما اندلع صدام سياسي آخر عندما بث التلفزيون الفرنسي فيلم “ليس من دون ابنتي”، بطولة سالي فيلد وألفريد مولينا، والمبني على قصة حقيقية لامرأة أمريكية غادرت إيران مع ابنتها مخالفة رغبة زوجها الإيراني، ويصوّر الفيلم المثير للجدل بشكل قاتم الحياة في إيران في ظل قوانين الأصولية الدينية، ما دفع الاتحاد الإيراني لكرة القدم إلى تقديم احتجاج على توقيت البث.
فرصة لتخفيف التوتر
هذه الخلفية التاريخية جعلت من مباراة كأس العالم عام 1998 في ليون بفرنسا حدثا مشحونا سياسيا، لكن بعد معرفة نتائج القرعة، اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية أن المباراة قد تساعد في تحسين العلاقات بين البلدين، فيما وقلل المسؤولون الإيرانيون من شأن المباراة، واعتبروها نوعا من “الحرب دون رصاص”.
وفي الفترة التي سبقت المباراة “السياسية” المنتظرة، قال مدرب المنتخب الأمريكي حينها، ستيف سامبسون: “لن ندع السياسة تلعب دورا في هذه المباراة”، وأضاف: “نريد أن نُظهر أن ما نريده من هذه المباراة إلى جانب النتيجة الإيجابية هو أن البلدين قادرين على المنافسة بشكل فعال، ومواجهة بعضيهما على أرض الملعب، كدليل على ذلك نأمل أن تكون المباراة بداية لما يمكن أن تكون علاقة جديدة بين الولايات المتحدة وإيران”.
تحركات في الكواليس
في يوم هذه المباراة المشحونة بدت الأمور تأخذ أبعادها السياسية، حيث أن خارج الملعب قبل المباراة، عُرضت عوالم مختلفة من إيران الحديثة، وارتدت بعض الشابات الإيرانيات قمصان رياضية وسراويل ضيقة وأحذية ذات نعل سميك، والبعض الآخر ارتدين أوشحة رأس وأردية طويلة أو بدلات فضفاضة، وكانت معظم الأعلام تحملُ علامات العلم الرسمي الإيراني الحالي، لكن القليل منها ظهر بشارة الأسد والشمس لنظام الشاه الراحل محمد رضا بهلوي.
بالقرب من الساحة المركزية في مدينة ليون الفرنسية، كانت عدة مئات من الإيرانيين يصفقون ويغنون ويحملون الأعلام، وتهافتوا على مطاعم ماكدونالدز المحلية، بالنسبة إلى الكثير منهم كان ذلك بمثابة إعادة توحيد للشتات الإيراني، لأولئك الذين فروا من ثورة 1979.
قبل انطلاق المباراة، كانت أول مشكلة واجهت القائمين على تنظيم المباراة أن إيران تمثل الطرف الثاني في المباراة وأمريكا هي الطرف الأول ، ووفقًا للوائح الفيفا يجب على الإيرانيين أن يذهبوا لمصافحة لاعبي المنتخب الأمريكي قبل انطلاق المباراة، لكن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، أعطى أوامره بألّا يتحرك الإيرانيون نحو لاعبي أمريكا. لكن في النهاية، تمكّن مهدراد مسعودي، وهو رجل إيراني المولد كان مكلفا من قبل الفيفا بتنظيم المباراة إعلاميا، من التفاوض على حل وسط، ونجح في إقناع منتخب أمريكا بأن يبدأ لاعبوه بالتحرك نحو المنتخب الإيراني ويلقون التحية عليهم، لكن هذا كان أقل ما يقلق الفيفا.
كانت تلك هي المشكلة الأولى التي واجهت الفيفا، لكنها لم تكن المشكلة الأكبر، ففي خارج الملعب اشترى أعضاء جماعة إيرانية منشقّة يرعاها العراق، وهي المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية المعروف باسم منظمة مجاهدي خلق الإيرانية، 7000 تذكرة مخصصة للمباراة، وكانت تخطط لتنظيم احتجاجات خلال المباراة ضد النظام الإيراني، لكن المصادر الاستخباراتية الفرنسية كشفت عن المخطط وأخذت شرطة مكافحة الشغب احتياطاتها، ودخلت قوات إضافية إلى الملعب لتأمين اللقاء، وقبل ساعات من انطلاق المباراة تجمعت الشرطة حول ساحة المباراة، حاملين عبوات حمراء من الغاز المسيّل للدموع على ظهورهم ودروع واقية.
فوز رياضي بطعم مختلف
قبل ضربة البداية قدم قائد المنتخب الإيراني أحمد رضا عابد زاده، لنظيره الأمريكي توماس دولي، باقة زهور ضخمة، بالإضافة إلى شعار وتذكار. كما فعل الأخير نفس الشيء وذهبا لخط التماس مثقلين بالأشياء التي تبادلاها.
لكن عندما أطلق حكم كرة القدم السويسري، أورس ماير، صافرته معلنا بدء المباراة، تصاعد التوتر مرة أخرى، واتسمت التدخلات المشتركة بين لاعبي المنتخبين بالقوة، لكنها لم تخرج عن إطار كرة القدم.
بعد وقت قصير من بدء المباراة، نزل الظهير الأمريكي كلاوديو رينا إلى المهاجم الإيراني داي، وساعده بلطف في الوقوف بعد أن تسبب في سقوطه أرضا، في تلك اللحظة فقط كانت كتيبة حاشدة من ضباط الشرطة تصطف في أعلى المدرجات، للفصل بين فصائل المشجعين وتفريق المعارك بين المشجعين الإيرانيين.
وفوق أرضية الملعب تقدمت إيران قبل 5 دقائق من نهاية الشوط الأول بهدف من حميد إستيلي، وضاعفَ مهدي مهدفيكيا التقدم في الدقيقة 84، وصمد الإيرانيون حتى نهاية المباراة ليسجلوا أول فوز لهم على الإطلاق في نهائيات كأس العالم، وعلى من؟ على منتخب “الشيطان الأكبر”.