سفيان البقالي.. بطل من رحم المعاناة
في أولمبياد باريس 2024، كان للبطل العصامي سفيان البقالي موعد مع كتابة التاريخ من جديد، من خلال رهانه على ثاني ميدالياته الذهبية في الألعاب الأولمبية وفي نفس مسافة ال3000 متر موانع التي أضحت مملكته الأسطورية التي لا ينازعه على عرشها أحد منذ أولمبياد طوكيو 2020.
شخصية البطل سفيان البقالي المكافحة التي ألِفت الصعوبات والعقبات، كانت أمام رهان تحدي الإصابة التي لحقته العام الماضي واضطرته إلى فترة راحة إجبارية لم تنل شيئا من إمكانياته وقدرته على الحفاظ على مستواه الكبير في خوض السباقات، فقوته الذهنية المذهلة دائما ما كانت تمنحه تركيزا على أهدافه وتدفعه إلى تحمل التداريب الشاقة والإستعداد الجيد لمدد طويلة منعزلا في إيفران وضواحيها.
كانت انتظارات المغاربة كبيرة لبطلهم الكبير سفيان البقالي من أجل إنقاذ الرياضة الوطنية من حصيلة هزيلة بعد خروج متتال لجل الرياضيين المغاربة بلا تتويج، ذلك شكل ضغطا كبيرا على إبن مدينة فاس، تحمله بكل روح المسؤولية التي تسكنه، وبكل الحب الذي يكنه للوطن والغيرة على سمعته، دخل سباق أمس محفوفا بدعوات والديه ودعم مدربه وأبيه الروحي كريم التلمساني، فكان في الموعد ولم يخيب ظن ملايين الناس الذين وثقوا فيه كبطل لا يقهر، وفاز عن جدارة واستحقاق بميداليته الأولمبية الثانية تواليا، ويدخل التاريخ كأول مغربي يحقق هذا الإنجاز الأسطوري.
موهبة في فاس
في ربيع سنة 2010، وعلى مشارف حي المرجة الشعبي بمدينة فاس، نظم نادي “أهل فاس” لألعاب القوى سباقا للعدو الريفي لفائدة 3600 تلميذا قدموا من مختلف الأحياء الشعبية ومؤسساتها التعليمية، منهم من جاء بحثا عن ترفيه طفولي يشبع غريزة اللعب، ومنهم من كان يحمل في عقله ورجليه موهبة دفينة للركض، وملامح بطل تنقصها فقط من يقتنصها من بين تلك الحشود الصغيرة، لتحيطها بالرعاية والإهتمام والمواكبة حتى بلوغ مراتب عالية في سلم التألق والمجد.
في ذلك السباق لفت طفل طويل القامة مقارنة مع أقرانه، انتباه جميع العيون الخبيرة في التنقيب عن المواهب في العدو الريفي داخل النادي المنظم للسباق، كان يحمل إسم سفيان البقالي وكان يبلغ من العمر 14 سنة، وقدم من خلال رتبته الأولى التي احتلها بسهولة، مؤشرات واعدة يمكن أن تذهب به بعيدا في رياضة أم الألعاب، فكان نادي “أهل فاس” أول “عتبة” في حياة البطل الأسطوري الذي سيملأ الدنيا وسيشغل الناس التواقين لمتابعة الإنجازات والبطولات.
يقول بطل الماراتون المغربي السابق عبد الرحيم بورمضان: ” سفيان بدأ مع النادي في سنة 2009 من فئة الصغار، كان متميزا في العدو، واكتشفه مدربه كريم التلمساني في إحدى السباقات المدرسية، ومنذ 2011 سيبرز أكثر في تظاهرة للعدو الريفي في منطقة تسمى العرجات”.
احتضان الأب الثاني
كان من حظ البطل سفيان البقالي أن صادف في بداياته الأولى في فاس، شخصا مثل كريم التلمساني المدرب والمؤطر والمربي الذي احتضنه وأشرف على تدريبه وتوجيهه وحمايته من مزالق المراهقة وطيش الشباب، وسيأخذ بيده راعيا له بالدعم المادي والمعنوي حتى يضع قدماه جيدا في طريق التألق والمجد، فكريم التلمساني كان صاحب خبرة كبيرة في الميدان وكان له فضل بارز على عدائين آخرين أبرزهم مريم العلوي السلسلولي وابتسام لخواض وحنان أوحدو.
يقول عنه سفيان في حديث مع عبد الإله أوبا الإطار التقني بالجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى: “كريم التلمساني جعلني أعيش الأحلام قبل أن تصبح واقعا على الأرض، لقد كان يؤكد لي باستمرار أنني سأكون بطلا”.
سفيان البقالي لا تفوته الفرصة في كل مرة وحين للتذكير بفضل كريم التلمساني مدربه وأبيه الثاني عليه، والإشارة إلى مرحلة كان فيها المؤطر الشهير يطوف به على نفقته الخاصة على مختلف مناطق المغرب للمشاركة في السباقات والتظاهرات المنظمة هنا وهناك، ويختبر نتائج عمله ومدى ظهور تطور في مستوياته البدنية والتقنية، وإمكانية تصحيح هفواته وأخطائه في الحلبة، وتعليمه فضائل الصبر والمثابرة والنفس الطويل لبلوغ الأهداف والمقاصد.
خطوات أولى نحو العالمية
في سنة 2012 سيتخصص سفيان البقالي في سباق 3000 متر موانع، وكانت البداية ضمن سباق فدرالي بمدينة فاس أملا في المشاركة في بطولة العالم للفتيان، لكن القدر كان يخبأ له سنة بعد ذلك أولى السقطات في حياته الرياضية، بعدما شارك في السباق المؤهل للبطولة العالمية، وكان عليه التغلب على منافسه هشام شملال، لكنه اصطدم بالحاجز في آخر لفة وسقط أرضا ليحرم من التأهل والمشاركة في منافسة كان يعقد عليها آمالا كبيرة لإبراز إسمه كعداء واعد سيقول كلمته مستقبلا.
لم يكن الحادث ليؤثر على الفتى سفيان البقالي واستمر في تداريبه رفقة مدربه كريم التلمساني حتى سنة 2014، حيث سيشارك في بطولة العالم للشباب التي جرت بمدينة اوريغن الأمريكية ويحل في المرتبة الرابعة، الشيء الذي سيدفع مسؤولي المعهد الوطني لألعاب القوى إلى السعي لإلحاقه بتجمع العدائين في الرباط الذي لم يمكث فيه طويلا، فارتباطه بمدربه وأبيه الثاني ومحيطه الذي نشأ دفعه إلى تحويل الوجهة إلى أكاديمية محمد السادس بمدينة إيفران والبقاء قريبا من مهده الأول مستفيدا من منحة مالية مهمة أبقته مرتبطا بالجامعة الملكية المغربية لألعاب القوى.
كانت سنة 2017 أول احتكاك لسفيان البقالي مع العالمية عندما شارك في بطولة العالم لألعاب القوى بالعاصمة البريطانية لندن، حيث شارك في تخصصه الأول الذي لم يكن سوى 3000 متر موانع، وأحرز فيه على الميدالية الفضية، ثم سنتين بعد ذلك بالعاصمة القطرية الدوحة ضمن بطولة أخرى للعالم حيث تراجع إلى المرتبة الثالثة في التصنيف العالمي محرزا الميدالية النحاسية، وكانت خسارته للقب الدوري الماسي، إنذارا له لكي يراجع الكثير من طرق استعداده ومناهج تركيزه على المنافسات عالية المستوى أملا في تحقيق الإنجاز الأكبر الذي يحلم به كل رياضي ألا وهو التتويج الأولمبي.
إنجاز أولمبي مبهر
كان البوديوم الأولمبي لا يكاد يزول من مخيلة البطل سفيان البقالي منذ نعومة أظافره، زاد في حماسه ذلك إصرار مدربه ومتعهده كريم التلمساني على تذكيره بأنه يملك ساقين من ذهب، ويكفي قليل من الإجتهاد والمثابرة للوصول إلى المسعى والهدف الكبير.
يقول البطل الأسطوري سعيد عويطة عن تلك الفترة من حياة سفيان البقالي: ” كنت في مدينة إيفران فشهدت على عمله الدؤوب، ذلك أنه يشتغل كثيرا دون أن يمل، كما أنني شهدت على صبره الكبير في التداريب، وقدرته على التحمل”.
في يونيو 2021 سيحقق العداء المغربي سفيان البقالي أفضل إنجاز عالمي في سباق 3000 متر موانع ضمن ملتقى روما، وهو الإنجازوالذي سيؤكده شهرين بعد ذلك في طوكيو بمناسبة احتضانها لدورة الألعاب الأولمبية عندما أحرز ميداليته الذهبية الأولى في مساره الرياضي، وحقق بذلك حلما راوده منذ صباه وعانى من اجل الوصول إليه مبديا كل ملكات العزيمة والصبر وتحمل الصعاب والإخلاص في التداريب والإذعان لتوجيهات مدربه وأبيه كريم التلمساني الذي لازال يرافقه إلى اليوم كظله أينما حل وارتحل.
اعتراف عالمي
لم تخطى اللجنة الأولمبية الدولية حين أفردت للبطل المغربي سفيان البقالي تقريرا خاصا، كان نتاج امتحانات اختبارية لإبن مدينة فاس خلصت إلى انه يتميز بقدرات بدنية فريدة، وتناسقا في بنيته الجسمانية، وطاقة كبيرة تدفعه للمثابرة والإجتهاد واكتساب القدرة على التحمل.
سفيان البقالي جمع الكثير من الخصال المفروض توفرها في الأسطوريين الذين يدخلون التاريخ العالمي من أبوابه الواسعة، فهو بالإضافة إلى ميداليتيه الأولمبيتين في دورتين اتباعا في إنجاز لم يحققه أي بطل في المسافة منذ سنة 1932، فهو أيضا انتزع سباق 3000 متر موانع من سيطرة كينية استمرت عقودا طويلة عبر تناوب عدائيها على اللقب الأولمبي وبطولة العالم، وسجل عرش المسافة في إسمه حاليا، وهو الشيء الذي سيدفعه بعد الأولمبياد الحالية إلى التفكير في تحطيم رقمها القياسي العالمي ودخول باب آخر من أبواب التاريخ.