سرّاق الماء
يواصل موضوع استنزاف الثروة المائية للمغاربة البوح بأسراره، والجديد الذي حمله تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول استغلال ومراقبة الموارد المائية والمقالع، هو عدد الذين “يسرقون” الماء في المغرب، والذين يفوق تعدادهم المئة ألف.
الخطوة حلقة جديدة في سلسلة المكاشفة التي أقدمت عليها الدولة في الشهور القليلة الماضية. وبعد المعطيات المحيّنة التي تم الإعلان عنها عقب إحدى جلسات العمل في الديوان الملكي، جاء التقرير الجديد ليقدم معطيات تسدّ جزئيا الثغرة التي كانت بمثابة الثقب الأسود في المعطيات المتعلقة بالثروة المائية: المياه الجوفية.
الوثيقة الجديدة تخبرنا بكل اختصار أن ثروتنا المائية تخضع لمنطق “السيبة”، حيث تتعرض للنهب والاستنزاف المفرطين، مع غياب أشبه بالتواطؤ من جانب السلطات المفترض فيها السهر على المراقبة وضمان الحماية.
تبدو الدولة كما لو تم تجريدها عمدا من أدوات الرقابة الفعلية على الماء، حيث يفتقد المغرب إلى سلطة حقيقية في هذا المجال، بصلاحيات وإمكانيات حقيقية. بل تفتقد بلادنا حتى إلى نظام معلوماتي موحد ومندمج خاص بالمياه على الصعيد المركزي، مقابل توفر كل جهة معنية بالماء على نظام معلوماتي مستقل.
ما لا يستوعبه وعينا الجماعي، بسبب رواسب ثقافية وتاريخية لا تساعدنا على تقدير القيمة الحقيقية للماء، هو أن استغلال واستعمال المياه التي يتوفر عليها المغرب أهم وأكثر حساسية من استغلال جميع الثروات الطبيعية الأخرى، بما في ذلك الذهب والفوسفاط.
في المقابل، هناك لوبيات وشبكات أخطبوطية تشكلت، خاصة في السنوات الأخيرة وتحت مظلة مخطط المغرب الأخضر، لمستغلين سرّيين للمياه، يقومون بالسرقة الموصوفة عبر جلب المياه من مصادر سطحية وأخرى جوفية، ومن ثم استعمالها في أنشطة قد تكون ضرورية في بعض الأحيان، في حالة بعض الفلاحين الصغار والمتوسطين، وقد تكون مجرد استجابة لجشع وأنانية مفرطين.
التقرير الجديد لمجلس أحمد رضا الشامي، يخبرنا أن عدد لصوص الماء، أي الذين يقومون بالحصول عليه بطريقة غير قانونية ودون الحصول على ترخيص، تضاعف في السنوات القليلة الماضية، حيث انتقل من حوالي خمسين ألف شخص إلى أكثر من مئة ألف.
ومن أصل أكثر من 640 ألف نقطة مياه، نقل المجلس عن كل من وزارتي الماء والداخلية، وجود حوالي 30 ألف نقطة مرخصة، أي نسبة 10 في المئة، علما أن عددا من نقط المياه تلك تحوّلت إلى نقط مهجورة بعد استنفاد مخزونها، لتتحول إلى فخاخ تهدد سلامة الكبار والصغار.
بعيدا عن لغة التقرير، الرسمية والتقنية، فإن الوثيقة تعبّر بكل وضوح عن كون السبب في هذا الوضع يعود إلى شلل تام يصيب جسم الدولة والمؤسسات الرسمية المفترض فيها حماية الثروة المائية، حيث يغيب التنسيق ويسود البطء والتعقيد في المساطر، بل وتتضارب التدخلات كما هو الحال بين وكالات الأحواض المائية والمكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي.
هذه الأخيرة تشترك مع الوكالات في اختصاص منح الترخيص لاستغلال المدارات السقوية الكبرى، “وغالبا ما يتم ذلك دون تنسيق بين الجهتين” يقول تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حرفيا. هذا يعني أن الصراع الذي يستشعره الجميع بين قطاعي الفلاحة والماء، والذي تكشف بعض معالمه وزيرة الماء السابقة شرفات أفيلال، بات حقيقة رسمية وموثّقة في تقرير صادر عن مؤسسة دستورية.
ما يعبّر عنه التقرير بلغة حذرة وغير مباشرة، هو أن الوسائل القانونية والمؤسساتية الخاصة بمراقبة استغلال الماء في المغرب، عاجزة كليا ولا يمكنها حماية أهم ثروة منحتها الطبيعة للمغاربة. وفي قلب هذه الوسائل، توجد وكالات الأحواض المائية، التي يخبرنا التقرير بوضوح كيف أنها تفتقد إلى الوسائل المادية والبشرية للقيام بوظيفتها، وأن مهمة مراقبة المقالع تستزف ما لديها من إمكانيات، ليبقى الماء عرضة لأطماع سرّاقه.
ما من شك في أن هذا الجهد الكبير الذي بذلته الدولة في الشهور الأخيرة لطرح حزمة جديدة من المعطيات والمعلومات، هو خطوة هامة في طريق استرجاع المغاربة سلطة دولتهم علي ثرواتهم المائية، لكن الخوف أن يكون كل ذلك مجرد بكاء “بعد الميّت”، ومحاولات يائسة “بعد خراب مالطة”، لأن اللوبيات المستفيدة من استغلال أراضي المغاربة وأيديهم العاملة الرخيصة، لإنتاج غذاء الأوربيين والخليجيين، تواصل الدفاع عن مصالحها، وعينها الآن على محطات تحلية المياه التي ستنتج لها ما يعوّض الماء الذي استنزفته من سطح وباطن الأرض المغربية.
الموضوع يحتاج أكثر من مجهود مقدّر في المكاشفة والشفافية حول ما جرى. والتقرير الجديد للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي يقدّم ما يكفي من المعطيات التي تثبت عدم جدّية الدولة في حماية الثروة المائية.
ففي الوقت الذي ارتقى فيه موضوع الأمن المائي، بشكل فعلي، إلى مرتبة الأمن القومي الذي يناقش ويدبّر على مستوى قمة هرم الدولة، تحت إشراف الملك شخصيا، يصبح من غير المفهوم عدم استغلال كل ما تتيحه التقنيات التكنولوجية الحديثة.
يقدّم لنا التقرير الجديد نفسه قائمة بالأدوات الممكن استعمالها لحماية الثروة المائية ورصد سرّاقها، مثل الصور الفضائية، والاستشعار البعدي الفضائي، والطائرات بدون طيار، ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، ونظام المعلومات الجغرافية (SIG)، وأجهزة الاستشعار، والماسحات ثلاثية الأبعاد…
تلاحظون كيف أن الوسائل والتقنيات ليست ما ينقصنا لحماية ثروتنا المائية، بل تنقص الإرادة السياسية الحقيقية بدل الخطاب الذي لا يعدو أن يكون سوى صبا للماء فوق الرمال.
الجواب عن الإشكالات المطروحة واضح ولا يحتاج إلى مزيد من التقارير والدراسات: إنفاذ القانون ومنح السلطات والإمكانيات الضرورية لاضطلاع وكالات الأحواض المائية باختصاصاتها، وتمكينها من عقود التدبير المشترك للماء، وبشكل خاص: حمايتها من اللوبي الفلاحي الذي يستقوي بسلطة القائمين على القطاع.