story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

زواج الإخوة

ص ص

يطرح النقاش الوطني المفتوح حول تعديل مدونة الأسرة، قائمة من القضايا الخلافية التي يفترض أن يشملها التعديل، وكلها تنطوي على أبعاد قيمية تجعل الخلاف حولها طبيعيا، بل ربما صحيا.
لكن هناك نقطة خلافية تستحق معاملة استثنائية وتجاوزا من جانب المتحفظين على تعديلها، وهي التي تتعلق بثبوت النسب بالنسبة للمواليد خارج إطار الزواج والخطبة.
هناك شعرة رفيعة تفصل بين الطرفين الرئيسين للنقاش الحالي، أي من يوصفون بالمحافظين والحداثيين، نحتاج معها قدرا يسيرا من الترفع والتجاوز وغض الطرف كي نحسم موضوعا بات من المخجل جره خلفنا لسنوات أو عقود أخرى، وهو الاستناد إلى نتائج تحاليل الخبرة الجينية في إثبات النسب.
لقد فتحت مدونة الأسرة الحالية ثقبا كبيرا في هذا الجدار، حين أقرت هذه الأداة العلمية كواحدة من الوسائل التي يمكن اللجوء إليها لإثبات البنوة الشرعية، لكن الممارسة والعمل القضائيين أبانا عن حاجتنا إلي خطوة أوضح وأكثر حسما، لإخراج هذا الأمر من دائرة السلطة التقديرية للمحكمة واعتماد نتائجها بصرف النظر عن حيثيات الحالة المعروضة، وهل يتعلق الأمر بزواج أو حالة أخرى.
شعرة رفيعة لأن المرجعية الدينية التي يحتج بها الرافضون لهذه الخطوة، ودون حاجة لأن تكون متخصصا، تبدي لك بمجرد إطلالة سريعة علي مراجعها “تشوفها” لإثبات النسب، وميلها إلى الاعتراف بعلاقة الأبوة بمجرد توفر “شبهة” أو إقرار أو زواج سبق الحمل بستة أشهر أو فُسخ قبل الولادة بعام كامل.
أي أن نية “المشرّع” الديني تنصرف إلى تحقيق أكبر قدر من ثبوت النسب والحد إلى أقصى الحدود من الحالات التي يبقى فيها المولود دون نسب.
لقد تشرفت قبل أيام بإدارة نقاش عميق حول المدونة بدعوة من منظمة التجديد الطلابي (الإسلامية)، ولاحظت كيف أن هذه الخطوة ليست مستحيلة بالنسبة للعقل “المحافظ، بما أن أحد أبرز القادة الذين عرفتهم الحركة الإسلامية في التاريخ المعاصر، وهو وزير العدل السابق والمحامي المصطفى الرميد، انتصب مدافعا ومدافعا عن فكرة اعتماد تحاليل الخبرة الجينية لإثبات النسب.
يعتبر الرميد، وهو الآتي من عمق المرجعية الإسلامية، أن المبرر الوحيد لتشدد الدين في رفض الاعتراف بالنسب لمن ولدوا عبر علاقات غير شرعية، هو غياب الوسيلة التي تسمح بالتحقق، وإلا كيف يعقل أن فقهاء الإسلام اعترفوا بنسب من ولد بعد ستة أشهر من الزواج، لولا أن الراجح في مثل هذه الحالة أن الحمل نتج بالفعل عن علاقة المتزوجين، لكن قبل توثيق زواجهما.
المبررات التي قدمها الرافضون لهذه الخطوة مع كامل الاحترام الواجب تجاهها باعتبارها رأيا، لكنها تسيئ إلى القائلين بها. فهؤلاء يعجزون عن الإتيان بحجة سواء من الدين أو القانون أو الواقع، ويقتصرون على تبرير رفضهم اعتماد الخبرة الجينية في إثبات النسب، ب”الغنان” الذي يستبد بطرفي النقاش في مثل هذه الفترات، وكون من يوصفون بالحداثيين، أو بعضهم، ينادون بإباحة العلاقات الجنسية خارجة الزواج، وبالتالي بتم ربط هذه بتلك بينما تقتضي الحكمة استحضار الصالح العام من جهة، ومصلحة ذلك المولود الذي يخرج إلى الدنيا بريئا من كل ذنب، فنعاقبه بحرمانه من وسيلة علمية دقيقة بما يقترب من المئة في المئة، ونتركه “نكرة” بيننا.
هناك معطيات كثيرة، يمكن الوثوق بها لتواترها ولطبيعة القائمين عليها، وإن لم تكن معطيات رسمية، تقدّر عدد المواليد الجدد خارج إطار الزواج، بالآلاف سنويا. نعم الفارق كبير بين هذه التقديرات، لكن أقلها يبقي بالآلاف (3 آلاف بالضبط) بينما يصل بها البعض إلى عشرات الآلاف.
لنفترض أن الأمر يتعلق بألف مولود مغربي جديد فقط في السنة، هل يحق لنا كواضعين للقانون الذي يعبر عن إراداتنا الجماعية، أن نواصل حرمان كل هؤلاء من حقهم في النسب وما يترتب عليه من نفقة وأشياء أخرى؟ ألن يؤدي اعتماد الخبرة الجينية إلى التقليل من هذه الحالات، سواء بالتقليل من تلك العلاقات أو الاعتماد أكثر على وسائل الاحتياط من الحمل، بما أن الرجل سيصبح مدركا لمسؤوليته عن كل مولود يساهم في مجيئه إلى الوجود؟ أليس الإصرار على رفض اللجوء التلقائي إلى الخبرة الجينية لإثبات النسب تحريضا على “الفساد” وعلى الإفلات من المسؤولية؟
من غير المنطقي مواصلة ادعاء الاعتماد على المرجعية الدينية في التشريع للأسرة، وفي الوقت الذي “تتشوف” فيه الشريعة لإثبات النسب، نكرس اجتهاد قضائيا يجعل الخبرة الجينية وسيلة لنفي النسب أكثر مما يوظفها في إثباته.
ومن غير الإنساني مواصلة إصدار أحكام قضائية ترفض إقرار البنوة فقط لأن الزوجين تأخرا أو أغفلا توثيق زواجهما، أو لم يتزوجا أصلا، لأن الأمر يتعلق بحقوق ومصلحة طرف ثالث لا ذنب له في خطئهما ولا في قوانين البلد الذي سقط فيه رأسه، ومن واجبنا الاعتراف له بنسب يمكن التأكد منه بشكل قطعي عبر وسيلة علمية.
إن إثبات النسب اليوم لا يحتاج إلى “فراش صحيح” بقدر حاجته إلى منطق سليم وتعفف عن النزالات الأيديولوجية التي تدور فصولها فوق حقوق ومصالح أبرياء لا ذنب لهم. وإذا كانت بعض الحقوق التي تترتب عن ثبوت النسب، مثل النفقة والإرث، تجد من يجادل فيها بخطاب الدين والثوابت، ماذا عن احتمال حدوث زيجات بين الإخوة، في ظل هذه الأرقام المرتفعة المتداولة حول المواليد مجهولي النسب؟ أمن السهل تصور وقوع ولو حالة واحدة ضمن مليون حالة زواج، لأخ يرتبط بأخته فقط لأننا أصرينا على حماية مؤسسة الزواج، الثمينة بالفعل، لكن على حساب حقوق مادية ومعنوية لمواطنين لا ذنب لهم؟