زرعنا الريح ونحصد العاصفة

هذا الرصاص الذي لعلع الليلة الماضية وأسقط الأرواح لم نصل إليه صدفة.
كان الطريق معبّدا بخيارات ظنّ صانعوها أنها تُحكم قبضة على المجال العام، فإذا بها تُفكّك عصب الدولة وتجرّدها من وسائطها.
لقد خرج “جيل Z” في بداياته بسلمية ناصعة. هواتف مرفوعة بدل الحجارة، وأسئلة واضحة بدل شعارات العدم. فقوبل باعتقالات عشوائية وصمت حكومي ثقيل.
قلتها وأكررها: حين تُكافأ السلمية بالهراوة، لا نُنتج إلا فراغا تزحف إليه كائنات ملثَّمة وغامضة، تحسن اصطياد الظلال وتعرف كيف تُحوّل احتجاجا مشروعا إلى ساحة قتال.
ليلة الأربعاء/الخميس (01-02 أكتوبر 2025) في مدينة القليعة كانت الحدّ الفاصل: شخصان يفقدان حياتهما برصاص وُصف في بلاغ رسمي بـ”الدفاع الشرعي عن النفس” بعد هجوم على مركز للدرك قصد الاستيلاء على العتاد والذخيرة، وإضرام النار في سيارة وبناية.
في سلا، بنكٌ يُقتحم ثم يُحرق بالكامل ويعبث بملفات زبنائه، وسيارات شرطة تلتهمها النيران، ومشاهد مطاردة، واعتقالات واسعة.
السيناريو يتكرر: نهار يسوده الهدوء، وليال تتسرب فيها وجوه ملثمة إلى أزقّة أخرى لتستهدف الأبناك والمؤسسات والمراكز الأمنية.
من هؤلاء؟ ولماذا يظهرون حيث ينفضّ الجمع؟ وكيف تُواجه هذه “الغزوات” بهذا القدر الضئيل من اليقظة؟ أسئلة أكثر من الأجوبة.
لكن أصل الداء واضح: تجريف ممنهج للحياة السياسية خلال سنوات، وقتل بارد لكل أدوات التأطير والوساطة، وتحويل الحياة الحزبية إلى مسرح عرائس، والنقابات إلى ديكور، والجمعيات الجادة إلى متهم دائم، والصحافة إلى أرض قاحلة تُنبت فيها أرتال التشهير بدل مساحات الحوار.
هكذا أضعفت الدولة نفسها وهي تظن أنها تتقوّى، لتجد ذاتها اليوم عارية في مواجهة التخريب، بلا هيئات تتوسط وبلا ألسنة تقنع.
أين هي “النخب” التي صُنعت بالريع والتمكين غير المشروع؟ أين هي الآلة الإعلامية التي بُنيت على أشلاء سمعة الحقوقيين والصحافيين والسياسيين المستقلين؟ أين هي اليوم لتقود النقاش، وتشرح القرارات، وتطفئ الحرائق؟
صدى الفراغ يجيب.
لا أزعم أن الحكومة وحدها سبب الانهيار؛ لأن ما يجري خلل دولة. لكن الحكومة كانت واجهة هذا الخلل وصدى صمته.
خمسة أيام من الغليان والاعتقالات والمطاردات بلا كلمة سياسية مسؤولة، خاصة من الحزب الذي يقودها. هذا عجز لا يليق بمؤسسات تموّلها ضرائب من يحتجون اليوم طلبا لسرير في مستشفى ومدرسة ذات معنى وفرصةِ عمل بكرامة.
دعونا نسمي الأشياء بأسمائها: المقاربة الأمنية الصرفة المهيمنة منذ 2017 على الأقل، لم تُنتج استقرارا ولا ثقة. إنها مقاربة اعتقدت أنها “انتصرت” على حراك الريف، واعتبرت الاحتجاج عطبا يجب كبته بدل اعتباره إنذارا يجب الإصغاء إليه.
تقارير رسمية حذّرت من أكثر من مليوني شاب وشابة خارج الدراسة والتكوين والعمل، ومن بطالة تسحق نصف الفئة بين 15 و24 سنة في مدن مكهربة، فأمسكنا بالرجل الذي أطلق الصافرة، أحمد رضا الشامي، و”شيّرنا” به إلى المنفى الدبلوماسي.
وفي الجهة الأخرى، تم دفع موارد باهظة إلى واجهات استعراضية بينما ينهار مستشفى ويتيه معلّم. حين تدشّن ملاعب وتشيّد منشآت بلا نقاش عمومي حول الأولويات، فأنت لا تثبت حضور الدولة، بل تعلن غيابها حيث يلزم أن تكون: في طابور المستعجلات، وفي مقعد الدراسة، وفي سوق الشغل.
هناك خلل آخر في القيادة على الميدان. في أيام قليلة، يُمنع الاحتجاج وتطارد السلمية بزجر يظهر “قدرة الدولة” على الضبط؛ وفي يوم تال، يسرّب توجيهٌ بعدم التدخل، ويُسمح بتجمّعات انضبطت إلى حدّ بعيد، ثم ما إن ينصرف المنظمون حتى تخرج الكائنات الملثّمة لقيادة حرب شوارع في نقاط أخرى.
إما أن القطع والوصل في القرار الأمني متروكان للصدفة، وإما أن أجنحة داخل الدولة تشدّ في اتجاهين. وفي الحالتين، من يدفع الثمن هو المواطن والأمن العام.
ومع شدة وقع هذا النقد، لا بدّ من وضوح أخلاقي: التخريب جريمة بلا أقنعة. من يحطّم بنكا أو يحرق سيارة أو يهاجم مركزا أمنيا ليس امتدادا لاحتجاج اجتماعي مشروع، بل خنجرٌ في ظهره.
ومن واجب الشباب الذين تصدّروا المشهد أن يحموا مطلبهم من العبث، ويعزلوا العابثين ويحموا الممتلكات العامة والخاصة، لأن السلمية قوة سياسية وليست زينة خطابية.
الحكمة والمسؤولية مطلوبة منهم كما هي مطلوبة من الدولة؛ الفرق أن مسؤولية الدولة مضاعفة، لأنها صاحبة السلاح والقانون والقرار.
ما المخرج إذن؟
أول الطريق اعتراف صريح بأصل الداء: لقد زرعنا الريح. وعلينا أن نعيد زرع السياسة. وذلك يبدأ بإطلاق سراح كل من اعتُقلوا لمجرد الوقوف والهتاف ورفع لافتة، وفتح تحقيقات قضائية مستقلة وشفافة في أي استعمال غير مشروع للقوة، بقدر ما تُفتح في الاعتداءات الموثقة على أملاك الناس وأجسادهم.
زرع السياسة يبدأ أيضا بإعلان هدنة مدنية يلتزم بموجبها المحتجّون بوقف مؤقت للتظاهر وحماية الممتلكات، وتلتزم بموجبها السلطة بإجراءات فورية: حوارٌ علني، وجدول زمني ملزم لإصلاحات اجتماعية عاجلة، ومراجعةٌ صريحة لأولويات الإنفاق العام، وإعادة فتح الفضاء الإعلامي العمومي لكل التيارات كي يصبح مرآة المجتمع لا مكبّر صوته الرسمي.
ثم هناك الأوراش الكبرى الحقيقية: إعادة الحياة إلى الوسائط. أحزابٌ تُنتخب قياداتها باستقلالية وتحاسب منخرطيها وتكتب برامجها للناس لا للهوامش، ونقابات تُستعاد استقلاليتها، ومجتمعٌ مدني يُرفع عنه الضغط القضائي والإداري، وصحافة تُحمى من تخوين التفاهة وتشتغل بمعايير المهنة.
دون ذلك، سنظل ندور بين هراوة تُشعر صاحبها بوهم القوة وسلطة تزداد هشاشة، وبين شباب يزداد يأسا، وشوارع تتكرر فيها الكوابيس.
أعرف أن البعض سيقول: “هذا وقت الأمن، دعونا من السياسة”. وهذا وهم.
الأمن الذي لا تسنده سياسة عادلة وشفافة هو أمن خادع. والهدوء الذي يُصنع بالقمع هو صمت قبل الانفجار. وإذا كانت الأرواح قد أُزهقت في القليعة، والممتلكات أُحرقت في سلا وغيرها، فواجب المرحلة لا يختزل في “استعادة النظام”، بل في استعادة العقد، أي أن تعود الدولة دولة لكل مواطنيها، وأن يعود الاحتجاج سبيلا للإصلاح لا مطية للخراب.
لقد نبّهنا طويلا إلى أن خيار تجريف السياسة لا يقوّي الدولة، بل يخلع عنها درعها الاجتماعي والأخلاقي. وها نحن اليوم، نتفرج على النتيجة: دولةٌ مكشوفة في مواجهة التخريب، ومجتمعٌ يُجرَّب على جسده مزيج الخوف واليأس.
الطريق مع ذلك ما زال ممكنا. كلمةُ حقّ من فوق، وهدنةُ حكمة من تحت، ومسار مُعلن يربط المال العام بمدرسة ومستشفى وشغل كرام. عدا ذلك، سنواصل حصد العاصفة، وسنواصل ادعاء الدهشة من ريح كنّا نحن من زرعها.