رمّال: المنظومة الشرعية قادرة على استيعاب التعقيدات المعاصرة

س: اضطر المغاربة هذا العام إلى عدم ذبح أضاحي العيد استجابة لإهابة ملكية، كيف تقيّمون تفاعل المغاربة مع هذا القرار، وما موقع المرجعية الدينية الرسمية في ترشيد مثل هذه الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية؟
ج: في تقديري، تفاعل المغاربة مع الإهابة الملكية بالإمساك عن ذبح أضاحي العيد هذا العام كان في عمومه إيجابيا ومسؤولا. فلم أسمع -على الأقل في الحميلة الاجتماعية الحضرية التي أغشاها- عن أحد أصرّ على الذبح ومضى فيه، بل
إن أغلب الناس استجابوا للقرار بروح من الانضباط والتضامن، إدراكا للظرفية التي استدعت مثل هذا التوجّه.
صحيح أنّ بعض الأسر لجأت إلى حجز لحوم الشّواء والطّبخ من الجزّارين قبل العيد، وهو سلوك وإن لم يكن واسع الانتشار، إلا أنه يُضعف – ولو جزئيا – مقصود هذا الإمساك، لأنّ اللحوم في النهاية لا تأتي إلا من الأضاحي نفسها. ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من مقصد الإمساك قد تحقق بالفعل، وهو ما يعكس وعيا جماعيا مشكورا.
أمّا بخصوص موقع المرجعية الدينية الرسمية في ترشيد مثل هذه الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، فإن الأمر يستدعي وقفة متأنية. فالقرار الملكي لم يأت بصيغة المنع، بل كان إهابة ودعوة للإمساك، والإمساك فعل اختياري لا يقدم عليه الناس إلا إذا تبيّن لهم وجه المصلحة فيه واطمأنت إليه ضمائرهم.
وهنا بالذات كان ينتظر أن تنخرط المرجعية الدينية الرسمية، إلى جانب المنظومة الإعلامية، في شرح أبعاد القرار وإقناع المواطنين بمقاصده الشرعية والاجتماعية والاقتصادية.
غير أنّ هذا الانخراط لم يكن بالقدر الكافي، لا من المؤسسة الدينية، ولا من الإعلام، ولا حتى من الفاعلين المدنيين. وهذا ما يطرح سؤالا عن الحاجة إلى تفعيل أكبر لدور هذه المؤسسات في مواكبة القرارات الوطنية ذات البعد الرمزي والديني، حتى لا تبقى الاستجابة رهينة بالمبادرات الفردية، وإنما تتحول إلى وعي مجتمعي راسخ.
س: أثارت قضية اعتقال ابتسام لشكر وما رافقها من نقاش حول حرية المعتقد وحدودها الكثير من الجدل. كيف يمكن في رأيكم التوفيق بين احترام المرجعية الإسلامية الجامعة للمغاربة وبين النقاشات الحقوقية التي تتوسع يوماً بعد يوم؟
ج: قضية اعتقال السيدة ابتسام لشكر وما أثير حولها من نقاش بشأن حرية المعتقد وحدودها تحتاج إلى قدر من التمييز.
فمن حيث المبدأ، لكل إنسان أن يختار ما يشاء من التصورات الاعتقادية، سواء كان مسلما أو مسيحيا أو يهوديا أو ملحدا أو غير ذلك، فهذا شأنه الخاص بينه وبين خالقه أو معبوده أو ضميره.
وفي حالة السيدة لشكر بالذات، فهي منذ سنوات تعلن مواقفها العقدية وتشتغل في إطار جمعياتها، ولم يُعرف -في حدّ علمي- أنّ أحداً ضايقها بسبب قناعاتها الشخصية (اللهمّ إلاّ ما كان من قبيل مقارعة الآراء على المواقع الإعلامية المكتوبة والرّقمية).
لكن ما وقع هذه المرة -كما بلغني- لم يكن مجرد تعبير عن معتقد خاص، بل انزياح إلى مستوى آخر: وهو التعرّض بالتّشنيع لمقدَّس من مقدسات المغاربة جميعاً، وهو “الله” عز وجل؛ بالإيذاء غير المقبول.
وهنا يصبح الأمر قضية قانونية، لأن الدستور المغربي نص صراحة على حماية ثوابت الأمة ومقدساتها، ولو كان الأمر متعلقا بأي مقدس آخر معترف به؛ لكان الحكم واحدا. وبالتالي فالمسألة ليست تضييقا على حرية المعتقد بقدر ما هي حماية للمقدسات التي تشكل إطار العيش المشترك للمغاربة.
ومن جهة ثانية، أنا من الداعين إلى توسيع النقاشات الحقوقية إلى أبعد مدى، شريطة أن يتم ذلك في إطار احترام واع وصادق للمرجعية الجامعة للمغاربة. فكلما تعمقتُ شخصيا في معالم المنظومة الحقوقية التي جاء بها الإسلام في تكاملها وتوازنها؛ ازددت يقينا بأن أية منظومة حقوقية من وضع بشري -مهما بلغت عبقريتها- لن تستطيع أن تبلغ كمال هذه المنظومة.
ويكفي أن نشير إلى الانتكاسات التي عرفتها المنظومة الحقوقية الأممية والدولية / الكونية حين وقفت عاجزة، بل وخرست أصواتها وأبواقها أمام المذابح التي تعرّض لها أطفال ونساء وشيوخ غزة، لنرى حجم الهوة بين الشعارات والواقع.
لذلك، فإذا كان الهدف الحقيقي من توسيع النقاش الحقوقي هو خدمة المصلحة العامة وبناء مجتمع أكثر إنصافاً وكرامة، فإن المسار الطبيعي له لا بد أن يقود إلى تقاطع وانسجام مع معالم المنظومة الحقوقية الإسلامية في أبهى صورة معاصرة ممكنة.
لكن للأسف، ما يظهر من مثل هذه الخرجات ليس مجرد تعبير عن حرية المعتقد، بل محاولات متكررة للنيل من الإسلام ومن مشاعر المسلمين، وهو ما يفقد النقاش قيمته الحقوقية، ويحوّله إلى استفزاز للمجتمع بدل أن يكون مدخلاً للتطوير والإصلاح.
س: يستمر ملف مدونة الأسرة مطروحاً للنقاش العمومي والرسمي دون حسم واضح. كيف ترون الطريقة الأنسب لتدبير هذا الملف بما يضمن التوازن بين المرجعية الإسلامية للمغاربة وبين المطالب الاجتماعية والحقوقية المتزايدة؟
ج: ملف مدونة الأسرة من القضايا التي ما تزال مطروحة بقوة في النقاش العمومي والرسمي، وهو ملف بالغ الحساسية لأنه يلامس مؤسسة الأسرة التي تشكل الركيزة الأولى لبنية المجتمع المغربي.
وفي تقديري؛ الإشكال ليس في أن تُطرح المقترحات أو أن تتسع دائرة النقاش الحقوقي حولها، فهذا أمر طبيعي ومشروع. الإشكال الحقيقي يبدأ حين تُشحن هذه المقترحات بحمولة “حقوقية” أممية أو دولية / كونية؛ وكأنها البديل الأوحد؛ فيسقط النقاش في فخّ الصراع المفتعل بين المنظومة الحقوقية الكونية، كما تُقدَّم، وبين المنظومة الحقوقية الإسلامية في تكاملها وتوازنها.
والأخطر من ذلك هو الاستقواء بالمحافل الدولية وعرض هذه المقترحات المختلَف حولها، والتي ما زالت بعيدة عن الإجماع والتوافق الوطني، في فضاءات خارجية على أنها مكتسبات محسومة ونهائية.
هذا السلوك في رأيي لا يليق بدولة تتطلع إلى ترسيخ الشفافية وتعزيز الخيار الديمقراطي ومحاربة أي شكل من أشكال الاستبداد بالقرار.
أما الطريقة الأنسب لتدبير هذا الملف، فهي في تقديري أن نعود جميعاً إلى “كلمة سواء”. أي أن نتعامل مع الموضوع بثقة في وحدتنا الوطنية ومرجعيتنا الأصيلة الجامعة؛ فنحتكم إلى ما تُمليه المصلحة العامة الحقيقية للمغاربة، لا إلى ضغوط الهيئات الأجنبية التي ما فتئت تقدم للعالم أسوأ النماذج في فشل الأسرة وتفككها.
إن ضمان التوازن بين المرجعية الإسلامية الأصيلة وبين المطالب الاجتماعية والحقوقية المتزايدة هو المدخل السليم، وليس في هذه المطالب –مهما بلغت تعقيداتها– ما يخرج عن أفق المعالجة داخل المنظومة الشرعية الإسلامية. بل إن لهذه المنظومة من السعة والمرونة ما يجعلها قادرة على تقديم حلول واقعية وعادلة. وهنا أشدد على “المنظومة الشرعية” نفسها، لا على ممارسات بعض المسلمين التي كثيرا ما تُتخذ أمثلة على القصور أو العجز، بينما هي في حقيقتها ممارسات تناقض صريح الإسلام، ولا يجوز نسبتها إليه.
يبدو لي أن التحدي الأبرز أمام المغرب اليوم ليس في تعدد النقاشات ولا في اتساع رقعة المطالب، بل في الكيفية التي ندير بها هذا التعدد ونتعامل به مع مرجعيتنا الإسلامية الجامعة. فسواء تعلق الأمر بالاستجابة الواعية لإهابة ملكية ظرفية، أو بالنقاشات المحتدمة حول حرية المعتقد، أو بالملف الشائك لمدونة الأسرة، يبقى المطلوب هو بناء وعي جماعي قادر على الموازنة بين مقتضيات المرجعية الأصيلة للمغاربة وبين حاجاتهم الحقيقية الاجتماعية والحقوقية المتنامية.
إن المنظومة الشرعية الإسلامية بما تحمله من تكامل ومرونة لا تزال تملك القدرة على استيعاب التعقيدات المعاصرة وتقديم حلول عملية، شرط أن نحتكم إليها بصدق ونحسن تنزيلها في واقعنا، بعيداً عن الضغوط الخارجية أو الاستقواء بالمحافل الدولية. وبذلك فقط يمكن أن نضمن للمغرب مساراً متوازناً يحفظ وحدته ويعزز ديمقراطيته ويصون قيمه.
*هذا الحوار، هو جزء من ملف العدد 76 من مجلة “لسان المغرب”، ، لقراءة الملف كاملا يرجى الضغط على الرابط