رحيل أحمد حرزني.. ثائر الإنصاف والمصالحة
فارق الحياة، مساء الإثنين 13 نونبر 2023 في المستشفى العسكري في الرباط، الحقوقي والسياسي أحمد حرزني، عن عمر يناهز 75 سنة.
الراحل الذي كان من ضحايا التجاوزات التي عرفها المغرب خلال الحقبة المعروفة بـ”سنوات الرصاص”، كان واحدا من الوجوه التي تصدّرت المشهد السياسي المغربي في بدايات عهد الملك محمد السادس، من خلال مشاركته في تجربة الإنصاف والمصالحة التي سعت الدولة المغربية عبرها إلى طي صفحة الماضي وتجاوزاتها الأليمة.
شغل الراحل مهمة رئيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان بدءا من سنة 2007، حين عيّن خليفة للراحل إدريس بنزكري، كما تولى منصب أمين عام للمجلس الأعلى للتربية والتكوين بدءا من سنة 2006، بعدما تولى عضويته لسنوات طويلة، فيما كانت آخر مهامه الرسمية توليه منصب “سفير متجول” مكلف بحقوق الانسان، وذلك منذ العام 2016.
“أنا لستُ ضحية”
في لحظة سجل فيها محرار الانتقال الحقوقي أقصى درجاته، لحظة انحبست فيها الأنفاس، وأخضع فيها الإعلام العمومي نفسه لأشد اختبارات “التسامح” وقبول الرأي الآخر، كان ضحايا سنوات الرصاص يجلسون أمام الكاميرات، وسيل بوحهم يتدفق عبر ميكروفونات ترتعش بارتعاش مسؤولي القناتين.
في هذه اللحظة رأى أحمد، أحد المتدخلين الذين جاءوا ليتكلموا عن ماضيهم الحزين دون الاقتراب من هوية جلاديهم، أن المرحلة الماضية لم تكن كلها ظلاما ولا كان رجالاتها كلهم رمزا للشر المطلق، مجددا دعواته بالرحمة الواسعة للملك الراحل الحسن الثاني.
كما دعا بالعمر المديد والتوفيق لـ”الفتى النبيل المقدام غير المستكبر الذي لولا طبعه الديمقراطي وعزمه على إخراج البلاد من دائرة الخطر لما كنا لنجتمع أمس لنؤسس جميعا لتصالح المغرب مع ذاته ولنهضة المغرب ولعزة المغرب، وأعني جلالة الملك محمد السادس، ملك المغرب” يقول أحمد.
مداخلة أحمد خلال جلسة الاستماع هذه التي تخللت أشغال هيئة الانصاف والمصالحة، اعتبرها البعض أقرب إلى مرافعة سياسية منها إلى شهادة ضحية قضى في جحيم الاعتقال حوالي 15 سنة، وإعلان “توبة” و”مراجعة فكرية” بل و”انقلابا” على الذات.
“أنا لست ضحية، أنا مناضل عارض ويعارض وسيعارض جميع أشكال الظلم والاستغلال والاستكبار، وكذلك جل أشكال المسكنة” يوضح أحمد في ذات الجلسة.
إنها ممحاة ضخمة تك التي حاول أحمد تمريرها على صفحات يجاهد الجميع لطيها ونسيانها، بينما اختار هو محو سطورها. وبما أن الممحاة ضخمة لم يتردد الطرف الآخر في مساعدة أحمد في حملها وتمريرها بلطف، علها تخفي حكاية أحمد ورفاقه أو على الأقل تحيل سطور محنتهم الى رصيد مشروعية ضروري لقيادة مشروع المصالحة.
نضال لإسقاط النظام
فأحمد هنا ليس سوى الفتى الذي صرخ بأعلى صوته في أحد اجتماعات منظمة إلى الأمام شهورا بعد تأسيسها، منتقدا السلوك البورجوازي لبعض الرفاق، داعيا الى خلق خلايا تتوزع على مختلف القرى والمداشر، ليس بهدف إنجاز مشاريع التنمية البشرية، بل لتحقيق الأحلام الثورية وقلب النظام، نظام والد الفتى النبيل المقدام.
رأي عرّض المنظمة الفتية للتأزم واحتمال الانشقاق، لكن المخاض سيؤدي إلى لفظ أحمد خارج المكتب السياسي للمنظمة كمحاولة لقص جناحيه.
غير أن ابن كرسيف، الذي قادته الصدفة التي بدأت بنزاع والده مع من كان يصفهم بـ”إقطاعيي” منطقة أزيلال إلى الحصول على فرصة للدراسة بعد استقرار أسرته، مكرهة، شرق البلاد، واصل تحليقه مشكلا سربا من بعض رفاقه داخل المنظمة.
رفاق اختاروا حمل السلاح في وجه نظام ملك يتوعد: “اللي عارضني نخلي دار بوه”، وهو الوعيد الذي لن يتأخر في تحقيقه، حيث سرعان ما سيتوصل أحمد بدعوة خاصة لإقامة طويلة في ضيافة “النظام الرجعي”.
خليفة بن زكري
مسار طويل ألف صاحبه منطق القطيعة الذي جربه عدة مرات، ومشاركته سنة 2004 في اللجنة العلمية التي كلفها محمد السادس بإنجاز تقرير الخمسينية، أي تقرير تقييم فترة حكم الحسن الثاني، ثم تزعمه لمجموعة “نداء المواطن” الموجه بالخصوص الى الصحافة المستقلة والمزعجة، صفات وأخرى كثيرة في سيرته الشخصية أهلته ليصبح في نونبر 2006 كاتبا عاما للمجلس الأعلى للتعليم.
والأهم من ذلك، أن أحدا لم ينافسه في خلافة رفيق المصالحة الراحل إدريس بن زكري، رغم أن بعض الأيادي كانت تحاول توجيه آلة القرار نحو أحمد الهيبة، لكن إشارة رفيق آخر هو صلاح الوديع أثناء إلقائه كلمة تأبينية في حق الراحل، جعلت من أحمد “الشخصية التي تمتلك صفات إدريس بنزكري”، وهي الإشارة التي لم يتأخر “الفتى المقدام” في التقاطها.