دييغو سيميوني.. مجنون البراغماتية الكروية
ص
ص
دعت الحاجة إلى وجود وظيفة المدرب في كرة القدم عندما احتاجت اللعبة إلى تكنوقراطية النظام، هكذا فسر الكاتب الأورغوياني الشهير “إدواردو غاليانو” في كتابه “كرة القدم بين الشمس والظل” دور المدرب، أي ذلك الشخص الذي يمنع الارتجالية ويحدّ من الحرية، وتزامنت حتمية وجود هذه الوظيفة مع التحول التدريجي للعبة من مرحلة الجرأة إلى الخوف، تلك التي يصوغ فيها كل مدرب أشكالا تكتيكية بعضها يكون عصيا على الفهم.
غاليانو يصف شخص المدرب بأنه منتج يمكن التخلص منه بسهولة في مجتمع الكرة الاستهلاكية، ومهما ظن هذا المدرب أن الكرة علم وأن الملعب مختبر لنشر أفكاره، فلا يمكنه أن يُقنِع المسؤولين والمشجعين بذلك، حيث لا يطالبه أحد أن يملك عبقرية أينشتاين ولا بُعد نظر فرويد، فالضمان الوحيد للبقاء على عرش كرة القدم هو ما تحققه من نتائج في النهاية، بعيدا عن فلسفة المدربين ونظريات التدريب وخطط اللعب المعقدة.
وأكثر المدربين في كرة القدم المعاصرة الذين تنطبق عليهم فكرة غاليانو حول الكرة الإستهلاكية هو الأرجنتيني مدرب نادي أتليتيكو مدريد دييغو سيميوني، باعتباره المدرب الذي يوصف بأنه أكثر مسؤول تقني في أندية العالم يلعب بطريقة استغنى فيها كليا عن الإحتفالية والجمال وارتضى الفلسفة الدفاعية التي تؤمّن له البقاء على عرش أتلتيكو للموسم الثاني عشر على التوالي، حتى ولو كانت ضريبة ذلك أن يُصنَّف على أنه رائد المدرسة البرغماتية في كرة القدم التي تلقى استهجان فئات عريضة من الجماهير.
جينات كروية أرجنتينية
في 28 من شهر أبريل سنة 1970 أعلمت القابلة بأحد مستشفيات العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس عائلة سيميوني بميلاد ذكر جديد بينهم، اختار له والداه اسم دييغو أحد أكثر الأسماء شهرة و استعمالا في البلاد، ولم تكن تظن العائلة أن مولودها الجديد سيكون مميزا عن الحاملين لهذا الاسم ليس في العاصمة بيونس أيرس فقط، وليس في الأرجنتين أيضا، بل العالم أجمع.
دييغو بابلو سيميوني غونزاليز وكغيره من أطفال الأرجنتين كان مهووسا جدا بكرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في البلد والتي لا يعلو صوت فوق صوتها بين الأحياء الشعبية الفقيرة أو الأحياء الغنية داخل الأرجنتين.
وفي عمر الـ 17 عاما، لعب سيميوني في تجربته الأولى مع فيليس سارسفيلد الأرجنتيني، ولعب 76 مباراة خلال ثلاثة أعوام وسجّل 14 هدفا، وبعدها انتقل إلى إيطاليا وبالتحديد إلى نادي بيزا، ثم إلى نادي إشبيلية الإسباني، وبعدها انتقل إلى نادي أتلتيكو مدريد الإسباني ولعب لهم لمدة ثلاثة مواسم، ثم نادي إنتر ميلان ولاتسيو الإيطاليين على الترتيب، وعاد إلى نادي أتلتيكو مدريد، ولعب معه 35 مباراة، بعدها قرر العودة إلى وطنه الأرجنتين.
مسار تدريبي متصاعد
علّق سيميوني حذاءه واعتزل كرة القدم في العام 2006، وفي اليوم الثاني لاعتزاله تلقى مكالمة هاتفية من رئيس نادي إستوديانتيس الأرجنتيني “إدواردو أبادي”، وسأله وقتها إن كان مهتما بالقدوم إلى النادي لمناقشة تولي منصب مدرب الفريق الأول، كان رد سيميوني حاسما وسريعا: “لماذا لا نذهب الآن”؟، كانت وجهة “التشولو” محددة سابقا، كانت عيناه على عالم التدريب وبورصته المتغيرة في كل لحظة، لكنه كان يعلم أن هذا العالم هو الذي يليق بشخصيته.
بدأ المدرب الأرجنتيني رحلته في عالم التدريب من بوابة راسينغ كلوب الأرجنتيني، لم تكن محطته الأولى مُرصعة بالأرقام الناجحة، فلم تتعدَّ نسبة الفوز 35%، لكنه انتهج من وقتها فلسفة معلمه ومثله الأعلى الأرجنتيني مارسيلو بيلسا، لكن مع إضفاء سيميوني لفكره الخاص على اللعبة.
سيميوني لم يكن نسخة من بييلسا، فالأول يلعب بطريقة 4 – 4 – 2، والثاني كان يلعب بطريقة هجومية تعتمد على ثلاثة خطوط، كل خط منها يتكون من ثلاثة لاعبين وأمامهم مهاجم صريح، ربما تكون الطريقة غير منتشرة في أيامنا هذه، لكنها بالتأكيد الطريقة التي انطلق منها “التشولو” لبناء فلسفته الكروية الخاصة، يقول بييلسا عن تلميذه إنه المدرب الأنجح في التحول الهجومي بالكرة، لكن المدرب الأرجنتيني لا يتحول للهجوم إلا حينما يقف على أرض صلبة أولا في الدفاع.
ربان الروخيبلانكوس
كان أتلتيكو مدريد يعاني الأَمَرَّين قبل استقدام سيميوني، ولم تكن الجلسة التي جمعت المدرب الأرجنتيني مع “أنجيل مارين” المدير التنفيذي لأتلتيكو مدريد في خريف 2011 تطمح لأكثر من بناء فريق مزعج للخصوم وصارم مع المنافسين، لكن سيميوني حقق أكثر من المطلوب فتحول معه “الروخي بلانكوس” إلى عاصفة تقتلع المنافسين من جذورهم، وحول “التشولو” كتيبة الأتليتي إلى صقور جامحة لا يقدر على اصطيادها أحد.
اعتمد سيميوني على طريقة 4 – 2 – 3 – 1 في أول 10 مواجهات خاضها مع أتلتيكو مدريد في الليجا، ولم يتلقَّ الهزيمة إلا في المباراة العاشرة وكانت في فبراير/شباط 2012 أمام برشلونة، انتهت بالهزيمة بهدفين مقابل هدف، لكن سيميوني كانت له نظرة أخرى، والتعادل في 4 لقاءات والسقوط في مباراة من أصل المباريات العشر الأولى له دفعت المدرب الأرجنتيني إلى تغيير الفلسفة الكروية سريعا، ومنذ هذه اللحظة بدأ سيميوني في الاعتماد على طريقته التقليدية (4 – 4 – 2).
حصيلة ألقاب قياسية
يعد سيميوني، الأكثر حصدًا للبطولات في تاريخ أتليتيكو مدريد، حتى أنه تجاوز لويس أراغونيس (6 بطولات في 612 مباراة رسمية) وفاز الفريق بـ 8 بطولات: الليغا مرتين (2013-2014 و2020-2021)، كأس الملك مرة (2012-2013)، الدوري الأوروبي مرتين (2011-2012 و2017-2018)، السوبر الإسباني مرة واحدة (2014)، السوبر الأوروبي مرتين (2012 و2018).
كما أنه الأكثر فوزا بالمباريات مع النادي حيث تخطى لويس أراغونيس في الفوز بأكبر عدد من المباريات، وحقق 326 فوزا في 551 مباراة رسمية مقابل 308 انتصارات لأرغونيس في 612 مباراة رسمية.
كما أنه المدرب الوحيد الفائز بالليغا أمام ريال مدريد وبرشلونة في 17 سنة الأخيرة، كما يمتلك الرقم القياسي التاريخي لأتليتيكو مدريد خلال 118 سنة من وجوده في سلسلة مباريات “اللاهزيمة” وخلال تلك الفترة، سجل الفريق 19 انتصارا و3 تعادلات، وتوج خلالها بالدوري الأوروبي وكأس السوبر القاري.
كما يمتلك لقب أكبر سلسلة انتصارات داخل الميدان ب 14 مباراة، وخلال مسيرة التشولو مع “الأتليتي” يسجل حضوره بانتظام في دوري أبطال أوربا وسبق له الوصول إلى النهائي مرتين.
شهادات تدعم سيميوني
كرة سيميوني منزوعة الجمال، لم تكن محل انتقاد فقط، دون أن تُمنح حقها من الواقعية، وجاء الثناء من الخصوم والمنافسين، فقال نجم الكرة العالمية كريستيانو رونالدو قبل 8 سنوات حينما كان في أوج تألقه مع الريال: “سيميوني ليس المدرب الذي يلعب كرة ممتعة، لكنه المدرب الذي يجب احترامه”.
كما اعترف تشافي هيرنانديز قائد برشلونة السابق بأنه كلاعب لا يمكن أن يصمد أمام أتلتيكو، قائلا: “أنا لا أستمتع بمشاهدة الفِرِق عن قُرب، لكني أحب هذه الطريقة الواقعية، فقوة سيميوني العظيمة هي أنه يتصدى لنقاط قوة خصومه”.
فيما قال ارتورو فيدال إن الأفضل لا يفوز دائما في كرة القدم، موضحا أن سيميوني بالكرة “القبيحة” التي يلعبها وصل إلى نهائي أوروبا وكان خصما لأقوى فريق في العالم ريال مدريد، بينما اعترف ريو فرديناند بأنه حصل على تشويق حقيقي من مشاهدة أتلتيكو يحبط خصومه، وأنه يحب الطريقة التي يُفضِّلها سيميوني.
في النهاية، قد لا يكون سيميوني مدربا يستحق التعاطف، لأن الكرة مهما طغى عليها التكتيك والتنظيم تنتصر في النهاية للجماليات، لكنه حتما مدرب يستحق الاحترام، بانفعالاته وجنونه وتمرّده وثورته على خط التماس، حتى بتصريحاته المثيرة وتعبيراته الحادة واحتفالاته البهلوانية، فما فعله هذا المدرب الأرجنتيني مع “الأتليتي”، لم يكن ليفعله فرانكو إمبراطور إسبانيا في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حينما صعد هذا الفريق الذي كان يعتبره معشوقه الأول، وغيّر اسمه من القوات الجوية إلى أتلتيكو مدريد، ليصير واحدا من أكبر المنافسين للريال والبارصا.