دولة اللا قانون
أصدرت مؤسسة “الوسيط”، إحدى أكثر مؤسسات الحكامة الجيدة نشاطا وأداء فعليا لأدوارها، سواء المباشرة أو غير المباشرة، خاصة منها التواصل والاشتباك مع القضايا الآنية؛ تقريرها السنوي الخاص بالعام 2023، والذي أكد لنا المؤكد، وكشف عمق الفجوة التي تفصلنا عن دولة الحق والقانون.
المواطن المغربي يكابد بشكل يومي وفي جميع مناحي الحياة، في تحصيل حقوقه والاستفادة من حماية القانون.
والجميل في تقرير “الوسيط” الجديد أنه طوّر مؤشرات جديدة، تتجاوز التوزيع الإحصائي للشكايات والتظلمات حسب القطاعات المعنية، والذي يفضي تلقائيا في خانة التظلمات إلى جعل قطاع العدل في الصدارة من حيث الشكايات، ووزارة الداخلية في مقدمة الإدارات المشتكى بها.
هذا المعطى الذي يتكرر منذ عهد “ديوان المظالم”، السلف الذي خرجت “الوسيط” من صلبه، يقدّم حقيقة مبتورة، بما أن الأمر يتعلّق في حقيقة الأمر بالجماعات المحلية المندرجة قانونيا ضمن الحقل الواسع لاختصاصات وزارة الداخلية.
المؤشر الدقيق الذي باتت المؤسسة تقدّمه لنا يوزّع الشكايات والتظلمات حسب طبيعة الحقوق التي جرى المسّ بها ودفعت المواطن إلى الاستنجاد ب”ديوان المظالم”. وهنا يبرز عنوان عريض ومعبّر: “الحق في الحماية القضائية والولوج إلى العدالة” هو أكثر ما يدفع المواطنين المغاربة إلى تقديم شكايات ضد الإدارات العمومية، يليه الحق في حماية الممتلكات الفردية، ثم الحق في المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص… هذا في الشق الخاص بالشكايات.
أما التظلّمات فأكثر ما تتعلّق به من حقوق، هو “الحق في المساواة أمام القانون وتكافؤ الفرص”، يليه “الحق في المعلومة أو الوثائق الإدارية والحق في الجواب”، ثم الحق في الحماية الاجتماعية”…
لاحظوا كيف أنه وبفضل المعالجة الجديدة التي بات التقرير الينوي للمؤسسة يقدّمها، نلاحظ أن الأمر أكثر من مجرد سلوك إداري يتسم بالشطط والتعسف، كما يفوق مستوى الخلل التدبيري أو عجز النصوص القانونية والتنظيمية عن تمكين المواطنين من الخدمات التي وِجدت الإدارة أصلا من أجل تقديمها؛ بل نحن أمام مساس بحقوق حيوية تضع مفهوم دولة القانون في قفص الاتهام، بما أن جل التظلمات والحقوق تتعلق بإعمال القانون وضمان المساواة أمامه.
وحتى ننزل من برج التنظير إلى أسلوب “أرض-أرض”، تعالوا نتأمل هذه النماذج للقضايا التي عرضها المواطنون على “الوسيط”، وتضمنها التقرير السنوي الأخير كنماذج دالة ومعبّرة:
• مواطن له سكن يحصل على شهادة السكنى متضمنا لعنوانه، لكن الجهة الإدارية المختصة بالربط بالشبكة العمومية للكهرباء، ترفض طلباته للاستفادة من خدماتها بدعوى أنه لم يحصل على رخصة البناء، ولا يقدّم أية وثيقة تثبت ملكيته للعقار.
أي أن حقا حيويا من قبيل الارتباط بالشبكة العمومية للكهرباء ودفع مقابل ما سيستهلكه هذا المواطن، مرتبط بشكليات أخرى لا علاقة لها بموضوع طلبه؛ وهو ما أصدر “الوسيط” قراره الشجاع في مواجهته، حيث طالب الجهات المعنية بتمكين هذا المواطن من طلبه، بما أنه يحوز شهادة سكنى من السلطات المحلية، تعترف بموجبها أنه يقيم في السكن موضوع الطلب.
• قضية أخرى تعبّر عن حالة التقاء الوعي المدني والسياسي عند المواطن، بالتفسير الإيجابي للقانون. فقد تقدّم مواطن بتظلّم لدى مؤسسة “الوسيط”، يلتمس منها التدخل عند الجماعة المحلية قصد حملها على إعادة رسم ممرات الراجلين المفترض وجودها في شارع رئيسي، ضمانا لسلامة المواطنين.
هذا المواطن كان قد تقدّم أمام مصالح هذه الجماعة الترابية، ونبّهها إلى ذلك، فانتقلت لجنة السير والمرور إلى عين المكان، وصدر قرار تنظيمي غير دائم بإعادة رسم هذه الممرات، لكن القرار بقي حبرا على ورق، تماما مثل الممرات التي توجد افتراضيا لكن لا أثر لها في الواقع.
اعتبر “الوسيط” أن الجماعة تعتبر مخلة بمسؤولياتها بما أنها اكتفت باتخاذ القرار دون أن تنفّذه، وطالبها بالتالي بالاستجابة لطلب المواطن وإعادة رسم ممرات الراجلين اللازمة.
* أحسن نموذج تضمّنه التقرير السنوي للمؤسسة على الإطلاق، هو الذي يعود إلى مواطن أراد أن يتقدّم بطلب لدى المحكمة الدستورية، يعتبر فيه أن فصلا قانونيا مخالف للدستور، وبالنظر إلى كونه يفتقد إلى الإمكانيات المادية لتوكيل محام لتولي إنجاز المهمة، فقد لجأ إلى ديوان المظالم ليطالب بالاستفادة من المساعدة القضائية.
الجميل في هذه القصة أن القانون التنظيمي الخاص بالدفع بعدم دستورية القوانين لم يصدر بعد، وما زال يتجوّل بدون أدنى مبرر منطقي بين مؤسسات الدولة التي تبدو متهيّبة من صدوره؛ لكن هذا لم يمنع المواطن المعني من التفكير في إعمال حق نص عليه الدستور، أي الدفع بعدم الدستورية.
وتقدّم هذا المواطن بطلب للحصول على المساعدة القضائية من أجل الطعن بعدم دستورية المادة 62 من القانون المحدث لهيئة مراقبة التأمينات والاحتياط الاجتماعي، والتي تنص على تقادم الحقوق التي لم يطالب بها المنخرطون والمستفيدون من التعويضات لفائدة مؤسسة التقاعد داخل أجل خمس سنوات…
الأجمل هنا هو الموقف الذي اتخذته مؤسسه “الوسيط”، والتي لم تقل لصاحب الطلب إن القانون التنظيمي الخاص بالدفع بعدم الدستورية لم يصدر بعد، لأنها كانت ستسقط حقا دستوريا، بل قالت بحفظ الطلب لكون القضاء الدستوري ليس قضاء عاديا تطلب أمامه المساعدة القضائية، ووجّهت المواطن في المقابل نحو القضاء الإداري حيث يمكنها أن توصي بمنحه المساعدة القضائية أمامه.
لا أقصد في المثال الأخير أن قرار مؤسسة محمد بنعليلو كان صائبا كليا، لكن المثال معبّر للغاية عن مستوى الحوار الممكن بين المؤسسات والمواطنين، وكيف أن مستوى وعي المجتمع بات يتجاوز العقليات الإدارية والبيروقراطية العتيقة التي تعيق استفادة المغاربة من حقوقهم، والتمتّع بحماية دستورية وقوانينهم.