story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

دولة الرميد العميقة

ص ص

بعدما كنت عازما على البقاء خارج دائرة النقاش الكبير الذي خلّفه لقاؤنا الأخير مع وزير الدولة والقيادي السابق في حزب العدالة والتنمية، المصطفى الرميد، أجدني مضطرا للعودة إليه والخوض فيه.
هدفي من ذلك ليس الفصل بين المختلفين أو الانتصار لطرف على حساب الآخر، بل لسبب واحد وبسيط، هو أن العنوان الذي قمنا باختياره ليكون في غلاف مجلة “لسان المغرب” الذي تضمّن النص الكامل للحوار، كان وراء جانب من هذه النقاشات، وهو الذي أتطرّق إليه في هذا المقال، من باب تحمّل المسؤولية وعدم إلقاء “اللغم” والتفرّج عليه من بعيد.
يتعلّق الأمر بموضوع “الدولة العميقة”، والتي قال المصطفى الرميد في حواره معنا إنها نعمة من الله في حالة المغرب، وهو ما ألهمنا في اختيار عنوان حوار طويل ومتشعّب.
لكن ضرورات العنوان الصحافي التي تتمثل في التكثيف والجذب والتشويق، والتي نحن على قناعة كاملة أن هذا العنوان يحققها بمهنية ودون أي اجتزاء، بما أننا ننشر النص الكامل لحوار مرئيا ومسموعا ومكتوبا، جعلت بعض النقاشات تبدو كما لو توقفت عند “ويل للمصلين”، وقرأت العنوان بمعزل عن نص الحوار.
حديث المصطفى الرميد عن الدولة العميقة باعتبارها نعمة في المغرب، جاء في سياق مقارنته ما حصل لحزب العدالة والتنمية، الذي كان ينتمي إليه، بمصير باقي الإسلاميين الذين وصلوا إلى الحكم في دول عربية عقب ما يعرف بثورات الربيع العربي.
وقال ضيفنا إن وجود الملكية في المغرب كسقف يحدّ من سلطات الأحزاب التي تصل إلى الحكومة، جعل التجربة المغربية تختلف عن التجارب التي كان فيها سقف الإسلاميين في دول أخرى مفتوحا، ما دفعهم إلى التقدّم بقوة في البداية، أي الاندفاع، ثم السقوط المدوي في مرحلة موالية. بينما إسلاميو العدالة والتنمية في المغرب، سقطوا أيضا لكنهم “يمشون في الأسواق ويأكلون الطعام”، أي أن سقف سلطاتهم المنخفض في الحكومة، هو نفسه قلّل خسائرهم بعد السقوط.
واسترسل الرميد في هذا السياق قائلا إن الملكية في المغرب، ميزة تجعله يتطور بشكل بطيء لكنه “مضمون”، ليخلص إلى أن “الدولة العميقة نعمة من الله، للمجتمع وللدولة”.
هنا تدخّلت محاولا استيضاح موقف الضيف أكثر من الدولة العميقة كما يصوّرها، وقلت: “لكنها ينبغي أن تكون مؤطرة بدستور ومؤسسات؟”، فردّ مؤكدا: “نعم، وأن تخلّص من شوائب الفساد، والاستبداد وأن تكون ضمانة للمغاربة”.
مشكلة مفهوم الدولة العميقة الذي استعمله الرميد هنا، أنه ينطوي على معنى سلبي إن لم يكن قدحيا. والسبب في تكريس ذلك، هو الخطاب الشعبوي الذي مارسه الرئيس الأمريكي السابق (وربما المقبل) دونالد ترامب، والذي كان يهاجم البنية الإدارية والأمنية للإدارة الأمريكية، والتي شكّلت بالنسبة إليه مصدر إزعاج ومقاومة لكبح جماح رئيس خارج عن السيطرة.
بل إن بعض الأدبيات، بعضها علمي، يتحدث عن حرب مفتوحة بين ترامب و”الدولة العميقة” انتهت بانتصار هذه الأخيرة حين تمكنت من إخراجه من البيت الأبيض، بكل “ديمقراطية”.
ورغم أن جل المصادر الأكاديمية تعيد أصل هذا المفهوم إلى تجربة ميلاد الدولة التركية الحديثة من رحم الإمبراطورية العثمانية، حين قام مجموعة من الضباط، يتقدّمهم الزعيم كمال أتاتورك، بتشكيل بنية سرية داخل الدولة، ونسجها لتحالفات معقدة مع بعض البنيات المدنية، واستعانتها، ربما، حتى ببعض البنيات المجرّمة أو الخارجة عن القانون، لتشكيل قوة مضادة سيطرت على الدولة، (رغم ذلك) فإن الكتابات الأكاديمية الرصينة في الجامعات الأمريكية، تحرص على التمييز بين مفهوم الدولة العميقة في أمريكا، ونظيره في منطقتنا، وتحديدا في كل من تركيا ومصر.
علة هذا التمييز، حسب تلك الأدبيات نفسها، أن الدولة العميقة في منطقتنا تعني تلك البنيات السرية والخارجة عن القانون، بينما المفهوم نفسه في الولايات المتحدة الأمريكية يحيل على بنيات إدارية ووكالات أمنية تخضع لقدر من الشفافية تسمح بالرقابة على أعمالها، وتقدّم خدمات أساسية للمواطنين وفقا لقوانين ومساطر دقيقة، تجعلها في دور المفوّض، له لا المنفلت من رقابة السلطة السياسية المدنية.
هذا المفهوم ال”كيوت” للدولة العميقة سيضعفه بشكل كبير عجز الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، عن إغلاق معتقل غوانتامانو الخارج عن القانون، كما وعد في حملته الانتخابية، وهو ما جعل المفهوم الأمريكي للدولة العميقة يفقد حجج الدفاع عنه والتنظير لإيجابيته، وإن كان يصمد في جبهات أخرى كتلك التي تقدّمه كضمانة للتقليل من مخاطر الديمقراطية، ولجم السياسيين الذين يمكن أن يستغلوا سلطاتهم المؤقتة لإلحاق الضرر بالكتل الناخبة لخصومهم. وهو ما يعبّر عنه البعض بمفهوم “الدولة الإدارية” (administrative state)، أي تلك الحزمة الكبيرة من الخدمات والقرارات التي يحتاجها المواطنون بشكل دائم، ولا حاجة لربطها باختيارات السياسيين التي يفترض أن تكون عامة واستراتيجية.
لكل هذه الخلفيات، حرص المصطفى الرميد على الوقوف عند مفهوم الدولة العميقة وتدقيقه خلال مراجعتنا للنسخة المكتوبة من الحوار. فبعدما اتفقنا على نشر تسجيل المقابلة كاملة بدون أدنى حذف أو توضيب، قلنا إن النسخة المكتوبة لا يجب أن تكون مجرّد تفريغ لما قيل شفويا، بل يمكن تدقيق بعض المعطيات، كما كان الحال في واقعة لم يتذكّر الضيف أثناء التسجيل هل كانت في 1992 أم في 1994، لكننا في النسخة المكتوبة قمنا بتدقيقها واقتصرنا على السنة الصحيحة…
وبالعودة إلى كواليس مقابلتنا المصوّرة مع المصطفى الرميد، كان هذا الأخير، ونحن نقوم بمراجعة النسخة المكتوبة على اعتبار أن ذلك لا يخلّ بمهنيتنا ما دامت المقابلة المصوّرة شاهدة علينا وعلى الضيف، وتم بتها كاملة دون أي حذف، (كان) حريصا على تدقيق مسألة اعتباره الدولة العميقة نعمة من الله.
وفي حين اكتفينا بلمسات طفيفة في النص المكتوب حتى يبقى وفيا لما هو مسجّل بالصوت والصورة، كان الرميد يسهب في التوضيح لي بشكل شفوي أثناء المراجعة، أن ما يقصده هو تلك الطبقة السفلى من الدولة، التي تكون راسخة ومتجذرة بطبيعتها، وتضمن الاستقرار والاستمرارية، وتسمح في الوقت نفسه بتغيير الطبقة العليا، من حكومات ومنتخبين، دون أن يحصل أي اضطراب أو فراغ… مستدلا على أهمية هذه الدولة العميقة بما وقع في دول مثل ليبيا واليمن.
وهذه هي الدولة العميقة التي تحدّث عنها الرميد.. للأمانة.