دنيا غرورة
انتهى مسلسل طويل من المحاكمات والتراشق الإعلامي والاتهامات والاتهامات المضادة في إطار ما يعرف بملف “حمزة مون بيبي”، وأسدل الستار هذا الأسبوع على فصل أساسي منه باعتقال واحدة من أشهر مغنيات المغرب في الألفية الحالية (بلغة الأرقام)، وايداعها زنزانة السجن حيث يفترض أن تقضي عقوبة سنة كاملة بعدما بات الحكم نهائيا.
هناك أعراف جديدة تستقر تدريجيا في الأوساط المهنية تقضي بالفصل بين مواضيع “التفاهة” وقضايا النقاش العمومي الجاد والمسؤول، وكثيرون سيسارعون إلى اعتبار مجرد التطرق لهذا الموضوع في منبر إعلامي يقدم نفسه منصة للجدية والترفع عن سفاسف الأمور، سقوطا مهنيا وتناقضا مع هذا الخط التحريري.
لكنني أجد شخصيا في هذه الملفات التي “تتفجر” بين الفينة والأخرى حول مشاهير من عوالم بعيدة عن مجالات اهتمامي الأساسية، وتجعلهم في قلب الاهتمام في ارتباط بسلوكهم عبر المنصات الرقمية والشبكات الاجتماعية، (أجد) فرصة سانحة للتذكير بقواعد ومحاذير يصعب تمريرها في سياقات عادية، حول الاستعمال الآمن لهذه الوسائط.
لا رغبة لدي في إصدار أي حكم قيمة أو حتى التعبير عن مشاعر في قضية الفنانة التي انتقلت إلى مؤسسة سجنية لقضاء عقوبة نهائية، لكن على جمهور عصر “البوز” و”الترول” و”الميم”… أن يأخذ العبرة ويستوعب الدرس، لأن المنصات الرقمية وكما تحرر الانسان المعاصر من كثير من القيود وتمنحه فرصا كبيرة للتعبير والتواصل، تنطوي على مخاطر لأنها لا تعني سقوط القوانين ولا الإفلات من العقاب ولا استباحة حقوق وحريات الآخرين.
الشهرة مغرية وممتعة، بل ومربحة أيضا، لكنها سيف ذو حدين، وعلى شباب العصر الرقمي أن يتسلحوا بالوعي والمعرفة اللازمين لمحو الأمية الرقمية… أنا شخصيا ضد ممارسة التربية الإعلامية عبر المحاكم والعقوبات الجنائية، لكن بما أنها الوسيلة الوحيدة المتاحة حتى الآن، لنستفذ منها على الأقل.
درس آخر يقدمه فصل دنيا باطما من مسلسل حمزة مون بيبي، يتمثل في الشكاية المضادة التي قدمتها المغنية، إلى جانب شقيقتها، ضد أشخاص آخرين من بينهم المغنية سعيدة شرف، تتعلق بادعاءات بالتعرض للتشهير والإساءة.
هذا ملف لم يفصل فيه القضاء بعد، وبالتالي يبقي المتهمون فيه في دائرة قرينة البراءة، ولم أذكر اسم إحدى المعنيات به إلا لأنها عقدت ندوة صحافية حول الموضوع، وبالتالي اختارت جعله عموميا، لكنه يحمل درس الحقوق المحمية للأشخاص المتابعين أمام القضاء، بصرف النظر عن شهرتهم أو مسؤولياتهم أو ما هو منسوب إليهم في صكوك الاتهام.
دنيا باطما كانت بريئة بقوة القانون إلى غاية صدور قرار محكمة النقض، وحسنا فعلت بتقديم شكايتها لتقدم هذا الدرس لمن يحتاج إليه من بين جماهيرها.
ثالث دروس القضية التي ينبغي تسجيلها والوقوف عندها، كممارسة إيجابية من جانب السلطة القضائية، تماما مثلما نقف عند الممارسات السلبية ونسجلها، ويتعلق الأمر أولا بإحاطة المحاكمة بكثير من ضمانات المحاكمة العادلة.
لا شأن لي بخبايا الكواليس ومن تآمر ضد من ومن أوقع بمن، أنا أتحدث هنا عن وقائع المحاكمة وفقا لوثائق ومعطيات الملف، وأسجل بكل إيجابية أن المتهمة تمتعت بحريتها وحوكمت في حالة سراح وكانت تحضر بانتظام ولم يؤثر ذلك على سير القضية، بل إن العقوبة رفعت في حقها من 8 أشهر إلى سنة، وبالتالي هذه حجة ضد من يدعون حتمية الاعتقال وسلب حرية المتابعين في قضايا جنائية.
والدرس الأبلغ هو الذي تابعناه هذا الأسبوع، بعدما وضع البعض يده فوق قلبه حين قامت بمخاطبة الملك وطلب عفوه، ولها كامل الحق في ذلك إذ لا لوم بتاتا على كل من يدافع عن حريته بصرف النظر عن وضعه أو عقوبته، وهذا كان شأنها الخاص الذي تصرفت فيه رفقة دفاعها وفقا للقانون، لكننا شعرنا بالخوف على شأننا العام وعن الرسالة السلبية التي سيبعثها أي تردد أو تأخر في تطبيق القانون، وهو ما جنبنا القضاء مشقة عيشه حين سارع إلى القيام بواجبه.
نتمنى للسيدة دنيا باطما أن تتجاوز هذه المحنة وتعود إلى فنها وجمهورها وأطفالها، وأن ينالها نصيب من دروسها. فمن عاش مثلي الربع الأخير من القرن الماضي شاهد حتما مسلسل “المال والبنون”، ولا شك أن كلمات أغنيته عالقة في ذهنه، خاصة لازمتها التي تقول: “قالوا زمان دنيا دنية غرورة.. وقلنا واللي تغره يخسر مصيره”.