دفاعٌ عن سرديات أخرى.. هوامش على متن شهادة المصطفى الرميد..

تابعت باهتمام وانتظام شهادة الأخ الفاضل المصطفى الرميد على تجربة حزب العدالة والتنمية التي بثها موقع أشكاين خلال شهر رمضان، وقد تضمنت معطيات وآراء وتحليلات جديرة بالتأمل والدراسة. لكن الأمر الذي دفعني اليوم للتفاعل مع شهادة الرميد، هو ما تعرضت له هذه الأخيرة وصاحبها من همز ولمز واتهامات، يشهد على ذلك كثير من التدوينات والتعاليق التي تم تقاسمها على نحو لافت على مواقع التواصل الاجتماعي وفي مجموعات الواتس آب، وبعض ذلك -للأسف الشديد- قام به أعضاء من حزب العدالة والتنمية.
بداية، ومن حيث المبدأ العام، إن حرية التعبير والرأي هي حق مطلق خالص لكل الناس، ولا يمكن مصادرته تحت أي مبرر كان. ومن المؤسف أن يكون ذلك موضوع هجوم واتهام، خاصة من قبل أبناء حزب العدالة والتنمية الذين ما فتئوا يرددون ”الرأي حر والقرار ملزم”، فإذا ببعض منهم يستكثرون على واحد من أبرز قادتهم حقه في التعبير عن رأيه، وذلك بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه فيما قاله. إن قيمة حرية التعبير والرأي إنما تكون حين الاختلاف، ولا قيمة لها ولا معنى إن هي كانت رجع صدى لما تهواه الأنفس وتستريح إليه.
مسألة أخرى كانت موضعا للهمز واللمز هي توقيت الشهادة وتزامنها مع قرب انعقاد المؤتمر الوطني التاسع لحزب العدالة والتنمية، وعلاقة ذلك باستهداف الأمين العام الحالي للحزب الأستاذ عبد الإله بنكيران، وكون غرض صاحب الشهادة هو التأثير على حظوظ الأمين العام الحالي في الفوز بولاية أخرى. والحقيقة أن هذا الأمر فضلا عن كونه دخول في نية الأستاذ الرميد واتهام له من غير بينة ولا دليل، هو في الحقيقة استهتار بعقول عموم المؤتمرين وكأنهم قاصرون وجبت حمايتهم و”تلقيح” عقولهم بما يدفع عنها المرض والأذى؛ ثم إنه بعد هذا انشغال بما لا ينفع، إذ إن نية الرميد وقصده لا يعلمها إلا الله، والمنطقي والصواب لمن أراد الاستدراك على هذه الشهادة هو نقض ونقد مضامينها والاتيان بما يفند مروياتها.
وما أثار استعجابي واستغرابي أن يكون هذا اللمز متأتيا من أبناء العدالة والتنمية، وقد بني مشروعهم الإصلاحي منذ أول يوم على ثقافة النقد الذاتي، واستيعاب أدبيات المراجعات النقدية لتجارب الحركة الإسلامية وكسبها، من مثل كتابات خالص جلبي وجودت سعيد وعبد الله النفيسي وعبد الحليم أبو شقة … إلخ. ولو عاد أبناء العدالة والتنمية لمأثورات نشأتهم الأولى لوجدوا فيها بابا واسعا من التأصيل لثقافة النقد الذاتي، ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من آيات تستدرك على النبي صلى الله عليهم وسلم وتعاتبه، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، ”عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ، أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ”، ”عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ”، “وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ”. بل إن آيات صريحة عاتبت الصحابة وكشفت عما خالج أنفسهم من رغبات الدنيا وأطماعها، ونزلت الآيات وهم للتو عائدون من هزيمة قاسية في غزوة أحد، ”مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ”، وآية أخرى تعري فيهم العجب والغرور، ”وَيَوْمَ حُنَيْنٍ، إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا”، وقس الأشباه على النظائر من آيات كثيرة لم يظن المسلمون حينها أنها تفضحهم وتكشف عيوبهم ونقط ضعفهم أمام أعدائهم. ولو استقامت حجة مراعاة السياقات لمعالجة الاختلالات لما نزلت آيات مثل هاته تتلى إلى يوم الدين.
والخلاصة في هذه المسألة، إن الأولى بمن يريد التنقيص من شهادة الرميد بدعوى توقيت خرجته الإعلامية أن ينشغل عوضا عن ذلك بمضامين الشهادة نقدا لها ومراجعة ومحاججة.
والمسألة الثانية على هامش متن شهادة الرميد، هي أن قيمتها -فضلا عن مضامينها- هي في صاحبها. فالمصطفى الرميد هو من القادة المؤسسين للمشروع الإصلاحي الإسلامي منذ أيام غربته الأولى، وهو أيضا أحد أبرز السياسيين من ذوي المرجعية الإسلامية في المغرب المعاصر. ولست في حاجة إلى التذكير بمساره وكسبه داعية منذ أيام طلب العلم، ومحاميا مبرزا، وفاعلا إعلاميا من خلال جريدة الصحوة، وقياديا في العمل النيابي منذ أول تجربة للإسلاميين، ووزيرا لامعا للعدل والحريات، يشهد له خصومه قبل أصدقائه ببصماته الكبرى على القطاع، ثم بعد ذلك هو وزير دولة وشاهد على أحداث مفصلية في التجربة الحكومية الثانية لحزب العدالة والتنمية، وهو فضلا عن كل هذا مثال مميز للنزاهة والاستقامة طوال هذا المسار الدعوي والسياسي الطويل.
وبالمناسبة، إنني أستغرب تناقض الكثيرين ممن علقوا سلبا على شهادة الأخ المصطفى الرميد دون أن يتناولوا مضامينها بالنقد والمراجعة، ومنهم الذين ما فتئوا ينتقدون صمت السياسيين وصومهم عن الكلام، وعدم تقاسمهم لتجاربهم بما ينفع مسار الإصلاح، ويجنب الأجيال الحالية واللاحقة تكرار نفس الأخطاء، فإذا بهم ما أن خرج الرميد بما لا تهوى أنفسهم فإذا هم يستنكرون ويتهمون.
وأما ما خرج به البعض من اتهام للرميد في نيته، وفي سلوكه السياسي، وكونه مكلفا ومدفوعا، أو مبدلا بعد اتباع، أو منسحبا بعد أن استفاد، فإن كل هذا “اللغو” وسوء حصاد الألسن، إنما هو -كما سبق أن دونته منذ سنوات- دابة الأذى التي انطلقت ذات يوم، تأكل منسأة قادة الحزب، وهو أيضا غصن من شجرة زقوم نبتت في مستنقع التهشيم المعنوي والعلني والمباشر لقيادات الحزب ورموزه، اتهاما لهم وتسفيها وتحقيرا واستصغارا. والغريب أن هؤلاء اللمازون الهمازون الموغلون في النيات والذين لا يراعون سابقة ولا كسبا، لا ينتبهون إلى أنهم يسيئون إلى الحزب وكسبه وعموم مناضليه، فلو صح أن المصطفى الرميد، على وزنه وعطائه وكسبه، انتهى به المسار الطويل بأن صار عبدا للدولة العميقة، ومسخرا لتقزيم “أدوار الزعيم”، ومكلفا بتوجيه أعضاء المؤتمر الوطني التاسع للحزب للتخلص من بنكيران، وغير ذلك من سوء القول وسيء الاتهامات، إذا كانت هذه هي نهاية مسار قيادي بارز أمضى عمره في محاضن الحركة الإسلامية تربية ودعوة وسياسة، فما هي يا ترى عاقبة من بقي من عموم القادة والمسؤولين؟ وكيف هي نهاية من لم يتيسر لهم التخرج من محاضن “التربية والدعوة والسياسة” كتلك التي تيسرت للرميد؟ ألا يصح أنهم أكثر هشاشة وضعفا؟ ما لهم كيف يحكمون ويجهلون ولا يحلمون؟ أليس من أخلاقهم تمثل قوله تعالى: ”وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ، ولَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ”، أم أنهم يعتقدون أن القسط في المكيال والميزان إنما هو محصور فقط في بيع الخضر والحبوب والقطاني؟
لا شك أن للأستاذ المصطفى الرميد أخطاء كغيره من الناس، وله طبع ومزاج صعب ومشاكس، وله كسب مفضول في التفرد بالتقديرات الشخصية، خاصة في بعض اللحظات التي تصرف فيها منفردا وبعيدا عن المؤسسات الحزبية، لكن هذه النتوءات لا يخلو منها أحد من الناس، وجل من لا يسهو ولا يخطئ ولا ينام. لكن الشهادة تقتضي القول بأن كل من خبر الرميد وعاشره عن قرب، لا يمكن له إلا أن يشهد له بصفاء السريرة والصدق والاستقامة والتفاني في خدمة المشروع الإصلاحي والدفاع عنه من مواقع شتى. لكن اختلال الميزان وعدم الاتزان هو ما يفضي إلى سوء القول وعدم الانصاف، وإلا كيف يعقل أن يكون ثمن دخول جنة السماء هو أن تغلب حسنات المرء سيئاته، ثم نجد منا أقواما جعلوا جنة رضاهم أغلى ثمنا من جنة الرحمان، كأني بهم يقولون، نريد كسبا مسلما لا شية فيه. ولله في خلقه شؤون!
والمسألة الثالثة من هذه الهوامش على متن شهادة المصطفى الرميد، هي خلو آراء أغلب المنتقدين والطاعنين من أي نقد لمضامين الشهادة. والشهادة لمن تأمل مضامينها، لا تخرج عن ثلاثة أصناف، خبر وتحليل ورأي. وعلى من يتهم الرميد وينتقد أن يسلك أحد السبل التالية.
فما كان في رواية الرميد من خبر، فإن الرد عليه يقتضي من المنتقدين دراسة الخبر رواية ومتنا، وتمحيص مضامينه تصحيحا أو تعديلا أو تكذيبا. وإذا سلمنا أن المصطفى الرميد هو عدل لا تجريح في عدالته، فإن مناط النقد لروايته إنما يكون من جهة الضبط بالأساس. وهنا نجد أن ما رواه الرميد في شهادته من أخبار، إما أنها وقائع كان فيها وحيدا وليس معه شاهد من إخوته، ومن ذلك لقاءاته المتكررة مع وزير الداخلية إدريس البصري، وهو عندنا في مثل هذه الوقائع مصدق باعتبار عدالته ومصداقيته. أو هي أخبار له فيها شاهد واحد، كتلك الوقائع التي جرت بينه وبين الأستاذ عبد الإله بنكيران أو الدكتور سعد الدين العثماني، وهذه لا مصحح لها ولا مستدرك أو راو لغير رواية الرميد إلا الواحد الذي حضر. والثالثة هي وقائع حضرها إلى جانب الرميد أكثر من شاهد، وهذه إنما يصححها أو يقرها من شهدها. وبالمناسبة فيما رواه الرميد وقائع حضرتها بصفتي مديرا مركزيا للحزب سابقا، أو عضوا في المجلس الوطني أو عضوا في الأمانة العامة، والرميد حين روايته لما شهدته أنا من وقائع كان بين الرواية الكاملة الصحيحة، وبين الرواية من زاوية نظره بما لا ينفي صحة روايته، ولكنها غالبا ما تكون وقائع تحتمل أن تروى على أكثر من وجه، باعتبار زوايا النظر والتأويل، وهذه أمور لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن تطعن في عدالة الرميد وصدق روايته.
وأما الصنف الثاني من شهادة الرميد فهو ما عبر فيه عن آرائه وتقديراته الشخصية، وهذا صنف تسعه حرية التعبير والرأي، والحق في اختلاف وجهات النظر، وتباين المواقف والتقديرات، ولا ضير في أن يكون ذلك مجال اختلاف وعدم اتفاق بين الرميد وغيره.
وأما الصنف الثالث في شهادة الرميد، فهي تحليلاته لعدد من الأحداث والوقائع، وهي على وجهين، بعضها يشهد كثير من الإخوة والأخوات أن الرميد عبر عنها ودافع انطلاقا منها عن وجهة نظره، ومن تحليلاته ما صدقته مجريات الأحداث وتفاعلاتها، ومنها غير ذلك. وأما الوجه الثاني فهي التحاليل التي تعبر عن وجهات نظر يكون الرد عليها نقضا لها واستدراكا عليها ببيان تناقضاتها أو ضعف منطقها الحجاجي والاستدلالي.
وخلاصة هذه المسألة، إن النقد البناء لشهادة الأخ المصطفى الرميد، الذي من شأنه أن يفيد تجربة الإصلاح ويقوم اعوجاجها، إنما يكون بالنظر في هذه الأصناف الثلاثة، خبرا ورأيا وتحليلا، والاستدراك على ذلك بما يناسب وينفع.
أما المسألة الرابعة والأخيرة المتعلقة بشهادة المصطفى الرميد، فهي ما تضمنته من بعض التعابير والصيغ والألفاظ التي اعتبرها البعض، ويحق لهم ذلك، غير ملائمة أو أن فيها استهدافا مبالغ فيه، أو تجريحا غير متزن لبعض من أقرانه، ومنهم بالخصوص الأستاذ عبد الإله بنكيران.
وهذا الأمر يمكن النظر إليه من وجهين، فأما الوجه الأول فهو ما يمكن اعتباره رد فعل لأذى لم يتحمله الرميد، خاصة ما بدأ به سنة سيئة واشتهر الأستاذ عبد الإله بنكيران من تشهير وتهشيم وترذيل لقيادات الحزب خلال الولاية الحكومية الثانية، ومنها بالخصوص الإساءات البالغة على الهواء مباشرة، مقاطعة وتسفيها واتهاما وتحقيرا بالكتابة على ورق سيء ومسيء. وهنا لا يمكن أن يؤاخذ الرميد على أقواله إن هي كانت داخلة في نطاق قاعدة ”لَا يُحِبُّ ٱللَّهُ ٱلْجَهْرَ بِٱلسُّوٓءِ مِنَ ٱلْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ”، وما من شك أن الرميد ظلم بسوء من القول والاتهام والمقاطعة. وأنا بكل صدق لا أستصيغ كيف للبعض أن يتهم الرميد بالإساءة في القول للأستاذ عبد الإله بنكيران ويعيب عليه ذلك، وهو الذي لم يسبق له أن عاب ولو مرة واحدة على السي عبد الإله بنكيران إساءاته البالغة والمتكررة والمستمرة لإخوانه وأخواته، وهي التي لا يمكن مقارنة حجمها وأثرها وسيء ألفاظها بما تضمنته شهادة الرميد مما يمكن اعتباره إساءة.
وأما الوجه الثاني في هذه المسألة، فهو اعتبار كل ما فضل عن الوجه الأول من بعض التعابير والصيغ والألفاظ التي لم تكن ملائمة في الشهادة، خاصة ما تعلق منها بأقران الأستاذ المصطفى الرميد، أنما هو مما يمكن إدراجه، كما اشتهر عند علماء الحديث، في خانة تجريح الأقران، وتقريرهم، كما قال بذلك الإمام الذهبي، أن ”كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، … وما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرا من العصور سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين”. ومن المشهور في مثل هذا الباب تجريح الإمام مالك، وهو من هو، للإمام بن إسحاق صاحب كتاب المغازي، وأول من جمع السيرة النبوية في كتاب واحد، وقد قال فيه الإمام مالك أنه ”دجال من الدجاجلة”، ورغم ذلك لم يتأثر علماء الجرح والتعديل بما قاله الإمام مالك، وما أثر ذلك في رأيهم في الإمام بن إسحاق، وغاية قولهم إنهم أجملوا ذلك في ”تجريح الأقران لا يعتبر” و ”كلام الأقران يطوى ولا يروى”.
ختاما إن أسوأ ما في شهادة الأستاذ المصطفى الرميد، أنها دليل قاس على عجز أبناء العدالة والتنمية، وقيادتهم بالخصوص، على استيعاب وجهات النظر المختلفة داخل الحزب ومؤسساته، وعدم نجاحهم الجماعي في احتضان حوار صريح وبناء داخل البنيات التنظيمية والمؤسساتية للحزب. والشهادة هي أيضا علامة انسداد وعجز وقصور، بل إنها دليل تيه وضعف. فقد كان من الأولى والأنفع أن تختضن مؤسسات الحزب رواية الرميد وشهادته ووجهات نظره، وأن تحتضن مع ذلك كافة وجهات النظر لمختلف القيادات الحزبية، وأن يكون حصاد ذلك تقييما مؤسساتيا ونقدا ذاتيا لتجربة غنية وثرية لأحد أهم الأحزاب السياسية في تاريخ المغرب المعاصر، لكن للأسف شيء من ذلك لم يحدث، وتلكم والله خسارة فادحة ورزء عظيم وخطب أمره جلل جسيم.