خيرنا يأكله غيرنا
وعاد حديث الطماطم، وعاد معه أنين الآباء والأمهات أمام محلات تبيع أهم ما يحتاجه الانسان المغربي كي يبقى على قيد الحياة: خضر وبقوليات لسد الرمق!
منذ بضعة أيام بدأت أصوات الأسر المغربية ترتفع بالشكوى من العجز عن جمع مكونات الطبق اليومي لأبنائهم، وعلى رأس هذه المكونات توجد سيدة المطبخ المغربي: الطماطم.
السيناريو نفسه يتكرر للسنة الثانية على التوالي. في السنة الماضية انطلق صعود موجة الغلاء في مثل هذه الفترة، وناقصو الضمير (كي لا نقول أكثر) وجدوا حينها فترة برد قارس (جريحة) ليعلقوا عليها جرمهم (ليس فشلا لأن الذي يفشل هو من يحاول وهم لا يحاولون أصلا)، بينما في هذا العام لن يجدوا غير تأخر التساقطات المطرية مشجبا لهم.
كانت رائحة الكذب بداية هذه السنة عطنة تزكم الأنوف. خرجوا علينا “بلا حيا بلا حشمة” لإلصاق تهمة تجويع المغاربة في السماء والسحاب والهواء… وتطلّب منا الأمر الكثير من البحث والتدقيق والمقارنة كي نثبت أن طماطم المغرب يأكلها البراني بينما يحرم منها المغربي.
يقول المثل الشعبي عن الكذاب “نسيه وسولو”، وهو ما حصل بالضبط بداية السنة عندما نسي بعض الوزراء أن الحكومة احتفلت يوم 9 يناير بتحقيق أرقام قياسية لعائدات تصدير المواد الفلاحية ومنتوجات الصيد البحري، وأن بلاغا رسميا لوزارة الفلاحة أعلن وقتها تحقيق الصادرات الفلاحية المغربية رقما قياسيا جديدا بتجاوز عتبة 80 مليار درهم، أي بزيادة 20 في المائة مقارنة بسنة 2021.
كانوا يفتخرون في يناير بأرقام التصدير الى الخارج، وفي فبراير راحوا يتباكون أمام المغربي البسيط الذي يعجز عن شراء الطماطم. وعند النبش أكثر في التفاصيل، وجدنا أن بطل المغرب في مجال تصدير الخضر والفواكه بدون منازع هو الطماطم التي حققت زيادة بنسبة 19 في المائة خلال سنة 2022، أي في الفترة التي أصبح المغاربة يواجهون فيها موجات متقطعة لندرة وغلاء هذه المادة الحيوية بالنسبة إليهم.
سمعنا في نشرة “صوت المغرب” الزوالية ليوم أمس مهنيا في سوق الجملة في الدار البيضاء يشير بأصبع الاتهام نحو التصدير الجشع. فمن بين ما عمّق معاناة المغاربة مع أساسيات غدائهم، ظهور أسواق جديدة للمنتجات الفلاحية المغربية، خاصة منها السوق الروسية والخليجية والإفريقية.
ورغم الحظر المعلن للتصدير نحو الأسواق الإفريقية، فإن محترفي البزنس يعرفون أن البدائل كثيرة للوصول إلى الأسواق بطرق غير مباشرة، ليبقى العيب في الاختيارات التدبيرية والسياسات الممنهجة، التي تقوم على إغناء المنتجين الكبار والمصدّرين، على حساب معيشة المواطن المغربي وطبق أكله اليومي.
كان هذا خلال بداية السنة، فما هو الوضع الحالي؟
اليوم لدينا معطيات أكثر وضوحا وشمولا، كي لا يقول قائل إن هناك اجتزاء أو قفز على السياق. الموقع الدولي المختص في جمع وتحليل البيانات المتعلقة بأسواق الخضر والفواكه “أيست فروت”، بات يقصفنا بشكل شبه يومي بأرقام فلكية حول صادرات الخضر والفواكه المغربية نحو الأسواق الدولية.
أرقام قياسية تحققها المنتجات المغربية بدءا من الطماطم ومرورا بالجزر والقرع ووصولا إلى التوت… لا شيء يسلم من جشع آلة التصدير النهمة، التي لا تحرم المغاربة من غذائهم اليومي فقط، بل تحوّل ثروتهم المائية الثمينة إلى ملايين في حساباتها البنكية.
يخبرنا هذا الموقع في مادة تحليلية تركيبية، أن عائدات مصدّري الخضر المغربية ارتفعت بأكثر من الثلثين خلال السنوات الخمس الأخيرة، وأن على رأس هذه الصادرات توجد كل من الطماطم والفلفل الذي بات أشبه بالكافيار بالنسبة لأغلب المغاربة. ونصف الصادرات المغربية من الخضر توجه إلى فرنسا التي قبل لنا إن علاقاتنا بها كانت متوترة في السنوات الماضية.
القسم الأكبر من صادرات الخضر المغربية توجه نحو دول هي منتجة ومصدّرة لهذه المواد أصلا، وتلجأ إلى الواردات المغربية لتلبية طلبها الداخلي وتمكين منتجيها من تمديد فترة التصدير، أي أننا نحرم المغاربة من غذائهم ومياههم ليس فقط لتلبية حاجيات الآخرين الغذائية، بل خدمة لنموذج اقتصادي خاص بالمنتجين الأوربيين، كي يحققوا أرباحا أكبر.
نعم، المنتج المغربي يسخر نفسه، بدعم ومواكبة رسميين، لخدمة مصالح المنتج الأوربي ومعه المستهلك الأجنبي، والمواطن المغربي يناله نصيب من التبريرات الواهية والأكاذيب.
قلتها في بداية العام وها أنا أكررها في نهايته: الأداء الاقتصادي لا يمكن أن يتحقق على حساب أساسيات المواطنين. لا يمكن أن ننفخ أرقام الحكومة ونحقق توازناتها المالية، على حساب بطن المواطن المغربي وصحته وأمنه الغذائي. وتحقيق العائد الاقتصادي عبر الصادرات الفلاحية بات ينطوي على إشكالية كبرى، بل وجودية، هي الإشكالية البيئية في ظل سح وندرة الماء.
والسؤال الأكبر الذي تطرحه هذه المعطيات، هو عن البعد الوطني في السياسات المتبعة في هذا المجال. أين هي الوطنية في تجويع المغاربة وإطعام الأجانب وإغناء منتجيهم؟