خريف قرطاج الأخير: عندما يُبشّر الجنون بنهاية الاستبداد
لم يعد السؤال في تونس اليوم متعلقاً بمدى اقتراب البلاد من حافة الهاوية، بل صار النقاش متمحوراً حول طبيعة الارتطام القادم وعمقه حين تبلغ الدولة قعر سقوطها الحر. إن ما تشهده “الخضراء” في هذه الأيام الحالكة من أواخر نونبر ومطلع دجنبر 2025، يتجاوز بمراحل مفاهيم التضييق السياسي الكلاسيكي أو الجنوح السلطوي المألوف في أدبيات الاستبداد؛ نحن اليوم بإزاء حالة متقدمة من الاضطراب السياسي المتفجّر، وفصلٍ تراجيدي من فصول التعنت السلطوي الذي لا يحكمه قانون ولا يضبطه عقل، سوى غريزةُ بقاءٍ بدائية تقتات على الفناء: فناء الخصوم، وتجريف الدولة، وتجريف المنطق.
إن المشهد السريالي الذي استفاقت عليه تونس مؤخراً، والموسوم بتوزيع أحكام قضائية صادمة بلغت سقف 45 سنة سجناً في حق معارضين بتهم فضفاضة من قبيل “التآمر”، لا يمكن قراءته إلا بوصفه فصلا إضافيا ضمن الفصول الأكثر قتامة في مسار الأزمة الراهنة، حتى أنه يستحق وصفاً أقسى كمجزرة قضائية مكتملة الأركان، ومشانقَ معنوية تُنصب لكل صوت يغرد خارج سرب التصحيح المزعوم. فأن يُقتاد قامة حقوقية ورمز وطني بوزن العياشي الهمامي من دفء بيته إلى برودة الزنزانة لتنفيذ حكم بخمس سنوات، وأن تُختطف المناضلة شيماء عيسى من قلب الحراك لتواجه حكماً بعشرين عاماً، والأغرب من ذلك أن يُساق نجيب الشابي، شيخ السياسة التونسية ذو الواحد والثمانين خريفاً، من حصار بيته إلى عتمة السجن تنفيذاً لحكم باثني عشر عاماً، ليلتحق برفيقه في المحنة والزنزانة راشد الغنوشي، ابن الرابعة والثمانين؛ لهو دليل دامغ على أن السلطة في قرطاج قد قطعت آخر شعرة معاوية تربطها بالواقع السياسي.
إننا هنا إزاء عملية واسعة لتوظيف القضاء في تصفية الحسابات، وعمليات تجريم سياسي تطال كل صوت مخالف، في رسالة واضحة مفادها أن النظام، بعد أن استنفد جزرة الوعود الاقتصادية وكرّس انعدام شرعيته الأخلاقية، لم يعد يملك في جعبته سوى الهراوة الغليظة والأصفاد.
وإذا ما رُمْنا تفكيك البنية النفسية لهذا السلوك السلطوي، سنجد أنفسنا أمام توصيف دقيق لحالة “الإنكار المرضي” التي تعيشها رأس السلطة. يبدو الرئيس قيس سعيّد وكأنه يتمترس داخل برج عاجي مشيّد من التصورات المغلقة ونظريات المؤامرة، متصرفاً كمن فقد بوصلة العقل السياسي تماماً. إنه يخوض حروباً دونكيشوتية ضد طواحين هواء يسميها “الخونة والمتآمرين”، أو معارك ضد خصوم يصنفهم في فئة واحدة مغلقة، في وقت تغرق فيه البلاد في أزمات معيشية خانقة وعزلة دولية غير مسبوقة.
هذا النزوع الجنوني في إدارة الشأن العام والاندفاع الأحادي الذي يفتقر إلى أي قراءة عقلانية للواقع، حيث تَحُل المراسيم محل الحوار، والزنازين محل السياسة، يؤشر بما لا يدع مجالاً للشك على أن النظام يواصل نهجه الثابت في حرق كل سفن العقلانية، واختار الهروب إلى الأمام. إنه، في نهاية المطاف، سلوك الخائف لا المقتدر، والمرتعش لا الواثق؛ فالحاكم المتمكن لا يحتاج إلى التنكيل بشيخ ثمانيني أو ناشطة مدنية ليثبت سطوته، بل إن اللجوء إلى هذا العنف العشوائي المفرط هو إقرار ضمني بالعجز المطبق عن تقديم أي منجز حقيقي أو ملموس للشعب سوى الخوف.
والتاريخ، وهو أصدقُ القضاة وأعدلُهم، يلقننا درساً لا يتبدل في جدلية الاستبداد: عندما يبلغ أي نظام سياسي هذا المستوى من التوتر والعنف السياسي ومن التوحش والسلوك الفج، فإن ذلك ليس دليلاً على عافيته أو صلابته، بل هو نذير شؤم بقرب نهايته الحتمية. إنها سكرات الموت السياسية التي تسبق الانهيار الكبير. فالأنظمة التي تفقد عقلها أو قدرتها على القراءة العقلانية للواقع تفقد بالضرورة مبرر وجودها وقدرتها على الاستمرار، لأن الحكم يحتاج إلى حد أدنى من الرشد لتدبير التوازنات، وعدم التنكر للتيارات السياسية المتجذرة في التربة المجتمعية ولمجرد أنها لا تُطابِق اليوتوبيا التي يحلم بها الماسك بالحكم. وحين يغيب الرشد، تحل الفوضى التي تأكل الأخضر واليابس، وفي مقدمتها النظام نفسه.
إن تسريع وتيرة القمع بهذا الشكل اللافت والهستيري ليس إلا محاولة يائسة لكتم صوت التصدع القادم من أساسات مركز الحكم نفسه، لكنه في الحقيقة لا يفعل سوى تسريع السقوط؛ فكل سجين جديد، وكل معتقل إضافي، هو مسمار يُدق في نعش شرعية متآكلة ومتداعية أصلاً.
ولعل بارقة الأمل التي تلوح في هذا الأفق المدلهم والقاتم، تكمن في مكر سنن التاريخ الذي جعل من هذا القمع، رغم قساوته، مولّداً لردة فعل عكسية، وهي مفارقة تاريخية متكررة حيث غالباً ما يؤدي القمع المفرط، ولو بعد حين، إلى نتائج عكسية تماماً عن مقصد الحاكم. فبدلاً من أن ينجح النظام في تشتيت المعارضة وكسر شوكتها، نرى اليوم إصراراً على تنسيق واسع وغير مسبوق بين أطيافها المتباينة.
البيان الصادر، في هذا السياق، عن أحزاب ومنظمات وازنة، والذي وصف الوضع بـ”المنزلق الخطير” معلناً التضامن المطلق مع المعتقلين، وتلك المبادرات التي بدأت تتبلور لتوحيد الصف الديمقراطي، تؤكد أن غريزة البقاء لدى القوى الحية في تونس لن تتوارى إلى الخلف وستواصل مجتمعة مواجهة الخطر الوجودي الذي يهدد الجميع. إن التقاء اليساري بالإسلامي، والحقوقي بالنقابي، في خندق واحد ضد هذا العبث والمسار، هو الكابوس الذي كان النظام يخشاه والسيناريو الذي كان يراه تهديداً حقيقياً، وقد حققه بيده لا بيد غيره.
تونس اليوم تقف على مفترق طرق تاريخي وحاسم؛ فإما أن ينجح هذا الجنون والنهج الفرداني في جر البلاد إلى المجهول والفوضى الشاملة، وإما أن تكون هذه الخبَطاتُ العشواء والقرارات الارتجالية هي الشرارة التي ستعيد للتونسيين وعيهم بأن استعادة الدولة من خاطفيها أو من قبضة هذا المسار باتت مسألة حياة أو موت، ويبدو أن ساعة الحقيقة ولحظة الحقيقة قد اقتربت أكثر مما يظن القابع هو وحواريوه وحلفاؤه في برج قرطاج.