story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

خرائط نتانياهو وخاطر تحيحيت

ص ص

أطل بنيامين نتانياهو، كعادته، بوجهه الذي لا يعرف سوى الاستفزاز والمراوغة، ليعطي الدليل على أن الإساءة للمغرب ووحدته الترابية ليست صدفة عابرة، بل هي اختيار متعمد وعن سبق إصرار وترصّد.
في خرجة “خرائطية” جديدة، حمل نتانياهو خريطة العالم العربي على كتفيه كما يحمل الجزار خنجره، وقطع منها “الصحراء الغربية” ليضعها تحت عنوان مستقل، كأنها بقعة زيت شاردة على خريطة العالم لا وطن لها.
لهواة التبرير ومحاولة تغطية الشمس بالغربال: هذا دليل جديد على أن الأمر ليس خطأ في الطباعة، بل رسمٌ متعمدٌ لمشهدٍ جديد يعكس رغبة قديمة: أن يظل المغرب معاقا بحجر المشروع الانفصالي في حذائه.. هذا إن لم تختلق له أحجار جديدة لا قدّر الله.
في ندوة صحافية عقدها يوم الأربعاء 4 شتنبر 2024، وكانت موجهة لوسائل الإعلام الدولية، أطلق نتانياهو سمومه نحو الدول العربية من المحيط إلى الخليج، من مصر التي تخوض معركة صامتة عند حدود رفح، إلى المغرب الذي تظل وحدته الترابية هدفًا لسهام التشكيك والطعن.
لكن، كيف نقرأ هذا السلوك المتناقض الذي ينتهجه نتانياهو؟ كيف نفهم هذه الخرائط المشوهة، بعدما جرى الإعلان في الأشهر الماضية عن اعترافه بمغربية الصحراء؟ هل هي مجرد لعبة سياسية يجيدها هذا الرجل، أم أنها محاولة جديدة لتعقيد العلاقات وإدخالها في دائرة المساومات؟
ما الذي يريده نتانياهو تحديدًا من وراء هذه الرسائل المبهمة، ومن وراء هذا التصريح المتناقض الذي يدعو إلى الاعتراف من جهة، ويغرس سهام الشك والتفرقة من جهة أخرى؟ يبدو الأمر وكأن نتانياهو يمارس لعبته المفضلة في حقل من الألغام، يحاول فيها أن يبتسم بوجه، ويطعن بوجه آخر.
خرجة نتانياهو الجديدة تعني أن مقولة “التطبيع من أجل المصلحة الوطنية” تسقط مرة أخرى في مواجهة الواقع. ألا يقولون إن الواقع لا يرتفع؟ وهو اليوم ينطق بحقائق قاسية: المستفيد الوحيد من هذا التطبيع الذي بدأ بعد توقيع الاتفاق الثلاثي بين المغرب والولايات المتحدة وإسرائيل ليس سوى الجانب الصهيوني، الذي ضاعف من حضوره في السوق المغربية، وراح يهدد السيادة الغذائية للمغاربة.
لقد باتت المياه تنضب، والزرع يذبل، والأرض تُستنزف تحت وطأة الجفاف من جهة، لكن أيضا بسبب الزراعات التصديرية التي تعيش تحت سطوة البذور الصهيونية، وكأننا نعيد تمثيل فصولٍ من مسرحية قديمة: مسرحية البقاء تحت الهيمنة والاستنزاف.
هذه ليست أحجية معقدة تحتاج إلى خبير ليفك رموزها. إنها بديهية واضحة، تحتاج إلى قليل من الفطرة السليمة التي تقول: نعم، يمكن لنا أن نتعامل مع من يريد أن يبادلنا نفعًا بنفع، وأن ننسج العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي الراعي الأكبر لهذا الكيان.
لكن مشكلتنا في المغرب ليست في العلاقات الدبلوماسية التي قد تقتضيها موازين القوى العالمية، بل هي في التورط المتزايد في علاقات لم تعد تبدو اضطرارية ولا مقدرة بحجم ما تجلبه من منافع أو تدفعه من مخاطر.
المشكلة في ربط اسمنا وصورتنا بشكل متزايد مع كيانٍ يعرف العالم بأسره أنه كيانٌ خارجٌ عن القانون والشرعية الدولية.
كل خطوة جديدة نحو التطبيع تفتح بابًا من أبواب الشك، وتُغلق نافذة من نوافذ الثقة. هل يمكن حقًا أن نكون في حضن هذا الكيان دون أن نتحسس قلوبنا بين الضلوع؟
لعل الإجابة تأتي من داخل الوطن، من أصوات الضمير النقية التي تعرف أن الوطن ليس مجرد خرائط على الورق، بل هو قبل ذلك، وبعده، قضية وموقف.
المناضل السياسي والحقوقي سيون أسيدون، الذي خرج من رحم أسرة يهودية مغربية، يظهر كصوتٍ حرٍ، ليقول بصوت عالٍ في كل مكان: لا لهذا التطبيع الذي يُلبس لباسًا زائفًا من شرعية.
خلال مشاركة أسيدون في برنامج “ضفاف الفنجان”؟، لم يكن الرجل يتحدث من فراغ، بل من قلب التاريخ، من داخل ثقافة لم تعرف يومًا الانقياد، ويؤكد أن اليهودية المغربية لا تعني الصهيونية، ولا تعني التبعية لكيان يعيث في الأرض فسادًا.
سيون أسيدون، مثل جبلٍ شامخ، يقف في وجه العاصفة، ويقود حملة مقاطعة ضد كل أشكال التورط مع الصهيونية، فكريًا وثقافيًا وسياسيًا واقتصاديًا. لا يتردد في القول إن لا علاقة للمكون اليهودي في الهوية المغربية بأي دعمٍ مباشر أو غير مباشر لهذا الكيان المجرم. إنهم اليهود المغاربة الأحرار، الذين يرفعون راية المقاومة، ليس فقط من أجل فلسطين، ولكن أيضًا من أجل المغرب.
ثم تأتي الفنانة فاطمة تحيحيت، التي لا تنتظر اعترافًا بأهليتها الفنية ولا استقلاليتها المادية. لتقولها صريحة في أحد برامج قناة “شدى تي في”: “ما بغاهومش ليا خاطري” بعدما عرضت عليها “أموال قارون” مقابل الغناء في اسرائيل.
هذه الجملة البسيطة، بقدر ما تحمل من عفوية، تعكس عمقًا لا يُدرك إلا بالقلب.
هي ليست مجرد كلمات، بل هي نداء من أعماق الروح المغربية، التي تعرف أن الحب والولاء للوطن لا يُباع ولا يُشترى، وأن كل خطوة نحو هذا التطبيع الأعمى هي خطوة نحو الضياع.
هكذا، بين أسيدون وتحيحيت، نجد مغربًا آخر.. مغربًا يرفض أن يكون جزءًا من مشهد تمثيلي سخيف يُكتب في مكاتب القوى الكبرى. نجد مغربًا يعرف أن قيمة الإنسان لا تقاس بحجم ما يمتلك، بل بقدر ما يحتفظ من كرامة ونقاء في قلبه.
منّا من يقول: “خاطري ما خلانيش”، وهي جملة قد تبدو بسيطة، لكنها تحوي كل حكايات النبل والمقاومة في هذا الوطن. إنها صرخة من قلب الصحراء، من قلب الجبال، من قلب المدن العتيقة، تعيدنا إلى ما كنا عليه دائمًا: أحرارًا في أرضنا، وأحرارًا في ضمائرنا.