خبير: تأخر الأمطار مؤشر مقلق والمغرب مطالب بسياسة مائية استباقية – حوار
يشهد المغرب هذا الموسم تأخراً ملحوظاً في التساقطات المطرية، رغم دخول شهر نونبر الذي يُعتبر عادة بداية فعلية للموسم المطري. فباستثناء بعض الزخات المتفرقة في شتنبر، لم تعرف البلاد إلى حدود منتصف نونبر أمطاراً تذكر، وهو ما أثار قلقاً واسعاً في الأوساط الفلاحية والاقتصادية، خصوصاً في ظل تراجع مخزون السدود واستمرار الضغط على المياه الجوفية في عدد من الجهات.
ويأتي هذا التأخر في سياق مناخي صعب يتسم بتزايد حدة الجفاف وتقلّب الفصول، نتيجة التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، والتي باتت تؤثر بوضوح على الدورة المطرية بالمغرب، حيث يؤكد خبراء أنه أصبح من الصعب التنبؤ بمواعيد وكمية الأمطار.
في هذا الإطار، حاورت صحيفة “صوت المغرب” الخبير الدولي في الموارد المائية محمد بازة، الذي أكد أن تأخر الأمطار أصبح مؤشراً مقلقاً، داعياً إلى مراجعة طرق تدبير المياه الجوفية وتكثيف الاستثمارات في تحلية مياه البحر، كما أكد أن المغرب يعيش مرحلة دقيقة تستدعي تدبيراً استباقياً وواعياً لتفادي أزمة عطش مستقبلية.
- كيف تقيّمون الوضعية المائية الحالية في المغرب في ظل تأخر التساقطات المطرية خلال شهر نونبر؟
إذا اعتمدنا على ما تعودنا عليه في السنوات الماضية، فالموسم المطري يبدأ عادة مع أواخر فصل الخريف، تحديدًا في أكتوبر ونونبر، وغياب الأمطار إلى غاية منتصف نونبر تقريبًا، باستثناء بعض التساقطات القليلة في شتنبر، أمر يثير القلق وغير طبيعي مقارنة بما كان معتادًا.
لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار أننا نعيش مرحلة متقدمة من التغيرات المناخية، فمن الطبيعي أن تصبح الفصول غير منتظمة، كما أن من أهم ما يميز هذه التقلبات أيضًا هو صعوبة التنبؤ بالمستقبل، خصوصًا في منطقتنا التي تتأثر بعوامل متعددة: الجبال، المحيط الأطلسي، البحر الأبيض المتوسط، والصحراء، كل هذه العناصر تجعل الطقس غير مستقر ولا يمكن توقعه بدقة.
- ما تأثير قلة الأمطار على الموارد المائية الاستراتيجية (السدود، المياه الجوفية، الفرش المائية)؟
تأثير تراجع الأمطار أصبح سلبياً للغاية، فكلما قلت التساقطات ضعفت الواردات المائية السطحية والجوفية، وخلال السنوات الأخيرة، لم تعد الأمطار تنزل بالوتيرة والمعدل الذي كان معتاداً في الماضي، بل أصبحت أقل كما وكيفا.
فمن خصائص الأمطار في سياق التغيرات المناخية أنها باتت عاصفية وقصيرة المدة، وغالباً ما تتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة، وهي خصائص تجعل جزءاً كبيراً منها يتبخر بسرعة أو يجرف التربة دون أن يتسرب إلى باطن الأرض أو يغذي مجاري المياه، وهكذا، لم تعد الأمطار تساهم في رفع مستوى الواردات كما كان يحدث سابقاً.
كما أن التساقطات فقدت انتظامها الجغرافي، فبدل أن تشمل مناطق واسعة، باتت تنزل في بقع صغيرة وغير معتادة، وغالباً على شكل عواصف رعدية مركزة، مما جعل تغذية الفرشات المائية الجوفية أضعف بكثير.
حالياً لا تتجاوز نسبة ملء السدود على المستوى الوطني 31 في المائة، ورغم أنها ليست نسبة ضعيفة جداً، إلا أنها غير مريحة في ظل استمرار الجفاف واستنزاف المياه الجوفية في عدد من المناطق بسبب الاستعمال المفرط، وإذا تكرر الجفاف خلال هذه السنة، فإن المغرب قد يواجه إشكالات حقيقية في توفير المياه، ليس فقط للفلاحة، بل حتى لمياه الشرب.
- ما هي الإجراءات العاجلة التي يجب على الدولة اتخاذها لتدبير هذا الوضع؟
تركز السلطات حالياً على إدارة الأزمة المائية التي يعيشها المغرب، من خلال تنفيذ البرنامج الاستعجالي لتأمين مياه الشرب والري للفترة 2020 ـ 2027. هذا البرنامج يتضمن إجراءات ذات أهمية كبيرة، خصوصاً على مستوى ضمان التزود بالماء الصالح للشرب في المناطق المتضررة، ويعتمد على تعبئة الموارد المتاحة سواء من السدود أو المياه الجوفية أو محطات التحلية.
وعلى الرغم من هذه الجهود، تبقى إشكالية تدبير المياه الجوفية نقطة ضعف واضحة، فهذه الموارد الحيوية لا يتكلم عنها أحد ولا يشرف عنها أحد، الأمر الذي يجعلها في مسار استنزاف مستمر، وغياب الحكامة وتفعيل قانون المياه يسمحان باستغلال مفرط لهذه الثروة غير المتجددة.
وفي سياق تأمين التزود بالماء الشروب، تُعتمد حلول مختلفة وفقاً لحاجيات المناطق، فحوالي 8 في المائة من السكان يتم تزويدهم بالماء عبر شاحنات مجهزة بصهاريج، إضافة إلى استعمال محطات معالجة متنقلة في بعض الجهات.
أما بالنسبة للري، فيتم الاعتماد على مياه السدود عندما تسمح بذلك الكميات المتوفرة، ما يخفف جزئياً من الضغط على الفلاحين، غير أن استمرار غياب الحكامة في استغلال المياه الجوفية يبقى مقلقاً، لأن هذه الموارد هي الملاذ الأخير في حالات الجفاف.
- إلى أي حد تساهم الأنشطة الفلاحية الكبرى في الضغط على الموارد المائية؟
هناك تباين كبير في الأنشطة الفلاحية بالمغرب بين منطقة وأخرى، وبين نوعية المزارعين أنفسهم، فبعض المناطق ما تزال تتوفر على موارد مائية جوفية مقبولة نسبياً، في حين عرفت مناطق أخرى استنزافاً واضحاً للفرشات المائية، خاصة على مستوى المياه الجوفية السطحية التي كانت تصل إلى حدود 200 متر، والتي أصبحت شبه منعدمة في عدد من الأحواض.
أمام هذا الوضع، يجد صغار الفلاحين أنفسهم في مواجهة معضلة حقيقية، إذ لم يعد بإمكانهم الوصول إلى المياه الجوفية العميقة بسبب محدودية إمكانياتهم المالية وتقنيات الضخ المكلفة، ما دفع العديد منهم إلى التخلي عن ممارسة الفلاحة، أو تقليص المساحات المزروعة.
في المقابل، يظل الفلاحون المتوسّطون قادرين نسبياً على الاستمرار في النشاط الزراعي، إما لأن المياه ما تزال متوفرة في مناطقهم، أو لقدرتهم على ضخ المياه من أعماق تتراوح بين 300 و400 متر.
أما الضيعات الكبرى، ورغم أنها قليلة من حيث العدد، إلا أنها الأكثر استنزافاً للموارد المائية الجوفية، فهي تعتمد على حفر عدة آبار في الضيعة الواحدة، قد يصل عددها إلى ستة أو ثمانية آبار بعمق قد يتجاوز 600 أو حتى 700 متر، إلى جانب استعمال الصهاريج وتقنيات ضخ متطورة، وهكذا، تصبح هذه الضيعات الفلاحية أكبر مستهلك للمياه، مما يفاقم من الضغط على الفرشات ويزيد من هشاشة الفلاحين الصغار والمتوسطين.
- إذا استمر الوضع على حاله في الفترة المقبلة، ما السيناريوهات المحتملة للوضع المائي؟
من الصعب تصور ما يمكن أن يقع، إلا أن جميع السيناريوهات المحتملة يجب أخذها بعين الاعتبار، خاصة في ظل الوضع الذي يعيشه المغرب اليوم، فارتفاع احتمال استمرار الجفاف يجعل من الضروري تبني مقاربة استباقية وليس فقط تدبير اللحظة.
وعلى مستوى البنيات المائية، تواصل الدولة بناء سدود جديدة، غير أن عدداً من السدود التي شُيّدت خلال العشرين سنة الأخيرة لم تستقبل أي واردات مائية، كما أن بعض السدود المبرمجة لا يُتوقع أن تكون لها جدوى في دعم المخزون المائي، وهو واقع يفرض مراجعة شاملة لسياسة بناء السدود وتوجيهها نحو مناطق ذات فعالية حقيقية.
في مقابل ذلك، تعمل الدولة على توسيع مشاريع تحلية مياه البحر، حيث يبلغ الإنتاج الحالي حوالي 300 مليون متر مكعب في السنة، مع برمجة محطات إضافية، وتكتسي هذه المشاريع أهمية بالغة لأنها تعد من الحلول الأكثر استدامة في مواجهة ندرة المياه، إلا أن نجاحها يظل رهيناً بتسريع وتيرة الإنجاز، خصوصاً في المناطق التي تواجه مستقبلاً ارتفاعاً في الطلب على الماء واستمراراً في الجفاف كما يتوقع ذلك خبراء المناخ.
إجمالا، كل المؤشرات تؤكد أن الوضع سيزداد تعقيداً في السنوات المقبلة، وحتى إن كانت هناك فترات أمطار موسمية، فإن ندرة المياه ستظل قائمة، لذلك، يصبح من الضروري اعتماد سياسة مائية استباقية قائمة على التدبير الأمثل للموارد المتاحة، وعلى رأسها المياه الجوفية التي تلعب دوراً استراتيجياً في فترات الجفاف، فالمياه الموجودة بين أيدينا اليوم مضمونة أكثر من تلك التي ننتظرها من الأمطار.