خالد البكاري يكتب: من الإخوان إلى العدل والإحسان
منذ إعلان جماعة “العدل والإحسان” انسحابها من احتجاجات حركة 20 فبراير، ثم وفاة مرشدها المؤسس الأستاذ “عبد السلام ياسين”، تنبأ كثيرون بدخول الجماعة في مرحلة تراجع، بعد مد، عرف أوجه خلال تسعينيات القرن الماضي.
ساعد على ذلك الفوز الانتخابي لحزب العدالة والتنمية في المحطتين الانتخابيتين: 2011 والتي كانت تعبيرا مغربيا عن صعود الإسلام السياسي الإخواني إقليميا، و2016 التي مثلت انتصارا ظرفيا على ما سمي آنذاك بقوى الثورة المضادة (يحسب للدولة المغربية آنذاك مقاومتها لضغوط حلفائها الإقليميين المناهضين للإخوان)، وهو الفوز الانتخابي الذي رفع أسهم التوجه الداعي للإصلاح من داخل المؤسسات، مما تضررت معه الجماعة التي واصلت الاشتغال وفق نسق المعارضة السلمية من خارج المؤسسات، في رهان على شارع لم يعد منتفضا.
إن حزب “العدالة والتنمية” القادم من حاضنة دعوية (حركة التوحيد والإصلاح) هو التعبير السياسي المغربي للمدرسة الإخوانية.
ليس معنى ذلك أن الحركة والحزب هما جزء من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ولكنهما مثل بعض تنظيمات الإسلام السياسي الأخرى، التي تأثرت بأدبيات الإخوان في نشأتها، تأثر تطورها كذلك بالتحولات التي كانت تطرأ في الجماعة الأم، سواء على مستوى التنظيم أو التنظير أو الخطاب أو العلاقات مع الأنظمة السياسية المحلية، سواء تأسست هذه التنظيمات مستقلة عن جماعة الإخوان (حال التوحيد والإصلاح المتشكلة من روافد أغلبها قادم من حركة الشبيبة الإسلامية)، أو انفصلت عنها تنظيميا لاحقا (حركة النهضة التونسية).
لا يمكن أن ننكر أن حركة “التوحيد والإصلاح” لها اجتهاداتها الخاصة، التي طورتها في تفاعلها مع الواقع المغربي من جهة، ومع خصوصيات النظام السياسي المغربي (الذي يعد الديني من عناصر بناء شرعيته)، ولكن في المحصلة النهائية تظل تسبح في الفضاء الإخواني، إذا ما أردنا تصنيفها على ضوء مقولاتها الكبرى، وعلى ضوء علاقاتها ومواقفها السياسية الخارجية.
حتى الاجتهادات الخاصة للحركة هي جزء من اجتهاد داخل المنظومة الإخوانية نفسها، في تصورها للدولة والمجتمع والدعوة والديموقراطية والتربية، ومحاولات التأصيل المتذبذبة بين “سلفية تيمية” و”مقاصدية شاطبية” دون حسم بينهما، وهو تذبذب مرده للتأثيرات التي وقعت داخل حركة الإخوان المسلمين في “هجراتها” من مصر نحو” الحجاز” و”أفغانستان” و”المنافي الأوروبية”، وفي علاقة كذلك باضطرارها تشييد اجتهادات للإجابة على رغبتها في دخول الانتخابات، حين كانت بعض الأنظمة تبدي تساهلا مع مشاركتها السياسية، ولو تحت عناوين أخرى (الأردن، تونس، مصر، الجزائر،،،).
وبالعودة إلى سياق 2011، كان يبدو لنا، وكأن ثنائية التوحيد والإصلاح/ العدالة والتنمية تقترب من تحقيق أهدافها في شقها السياسي، فيما العدل والإحسان تبتعد تدريجيا عن أهدافها سواء المرحلية أو الاستراتيجية.
مرت العدل والإحسان من ثلاث محطات قاسية: اختبار اليقين بالوعد (رؤى 2006)، وفشل المراهنة على ما سمي ب”الربيع العربي”، والذي جعل الجماعة تنسحب في منتصف الطريق اتقاء للمزيد من الخسارات (التنظيمية والتربوية والسياسية)، ثم وفاة المرشد التي ستنتج عنها لاحقا ما يمكن تسميته بأزمة “الصحبة”، والتي أجابت عنها بالانتقال من صحبة رجل حي/ المصحوب (كان يمثله عبد السلام ياسين)، إلى الصحبة في الجماعة. فظل عبد السلام ياسين هو الإمام والمرشد، فيما خليفته “محمد العبادي” تمت تسميته أمينا عاما للجماعة.
لم يترك عبد السلام ياسين وصية حول من يخلفه، وقد كان هو المصحوب المربي (في الأدبيات والتقاليد الصوفية فإن التربية تنتقل بالإذن من شيخ مرب إلى آخر يخلفه بعد وفاته، أو يأذن له بإقامة طريقته الخاصة)، وبالتالي لم يكن الإشكال عند الجماعة تنظيميا بل تربويا.
وفي الوقت الذي كان إخوان بنكيران والعثماني يقتربون من تحقيق “حلم” الحكم إلى جانب الملك، ونيل ثقته، وعلى المستوى الخارجي كان أحمد الريسوني يترأس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين (المدعوم قطريا ماليا ولوجيستيا، والمطبوع بالنفس الإخواني على مستوى موارده بشرية والتصورية، والذي يقود معركة مواجهة المشروع الإبراهيمي المدعوم إماراتيا، والذي توظف فيه تحالفا هجينا بين فقهاء تقليديين وما يسمى بالتنويريين)، كانت العدل والإحسان تبدو وكأنها دخلت في مرحلة كمون، خصوصا بعد تراجع النضالات الطلابية (كانت الحركة الطلابية الغائب الأكبر عن احتجاجات 20 فبراير، ثم بعدها عن الاحتجاجات المجالية اللاحقة، فقد سقط شعار: لكل معركة جماهيرية صداها في الجامعة)، وضمور مشاركة الجماعة (أو تقليصها ذاتيا وإراديا لحجم مساهمتها) في تعبيرات الحركات الاجتماعية الجديدة (حراك الريف، جرادة، الأساتذة المتعاقدون…)، وإن كانت السلطة في سعيها لشيطنة هذه الاحتجاجات تلمح بأن العدل والإحسان وراءها، لتسحب منها طابعها العفوي والمطلبي.
غير أنننا خلال الأشهر الأخيرة، وبعد السقوط الانتخابي غير المنتظر للعدالة والتنمية بتلك الطريقة المذلة (مذلة بنتائجها، ومذلة بأن جزءا من تلك النتيجة كان جزاء السلطة للحزب الذي قدم تنازلات من مشروعه وهويته وإيديولوجيته)، عادت الجماعة من جديد، لتصبح صانعة للفعل السياسي والحقوقي والمدني، ومؤثرة فيه.
فمنذ السابع من أكتوبر، تؤطر الجماعة أغلب الفعاليات المتضامنة مع غزة، سواء عبر الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إلى جانب قوى اليسار، والتي تظل مساهمتها ضعيفة في هذه الفعاليات إذا ما قيست بقوة العدل والإحسان اللوجيستية والبشرية والتنظيمية، أو عبر ذراعها “الهيئة المغربية لنصرة قضايا الأمة”.
وطرحت الجماعة وثيقتها السياسية للتداول العمومي، في سياق يعرف اتجاه التنظيمات السياسية نحو نوع من التماثلية المعيقة للتعددية السياسية الحقيقية، فعادت بنا الجماعة بغض النظر عن عناصر الالتقاء والتناقض مع ما طرحته، إلى زمن الأوراق المذهبية والتنظيمية والمرجعية والبرنامجية.
وإذا كان المطلعون على الوثيقة قد لمسوا بعض عناصر الجدة كما بعض عناصر الثبات فيها، فإن هذا التأرجح بين الدياكروني والسانكروني سيفضي إلى نقاش فرضية تهيئة الجماعة نفسها لطرح تعبيرها الحزبي من داخل حقل الشرعية القانونية (وفق قانون الأحزاب لا قانون الجمعيات). وإن كان هوى السلطة والجماعة معا لا يميل مرحليا إلى هذا الخيار (تجريب المجرب)
كما تحضر الجماعة بشكل يزداد قوة في المشهد الحقوقي، سواء من خلال جمعيات (لا زالت في بداياتها التجريبية)، أو من خلال قطاع المحامين داخله، والذي كان حضورهم لافتا في أبرز المحاكمات السياسية، بما يذكر بقطاع المحامين الاتحاديين في السبعينيات، وقطاع المحامين الطليعيين ابتداء من الثمانينات.
وتواصل الجماعة انفتاحها على جزء من اليسار (تنظيمات وأفرادا)، وإن كانت الاستجابة في الطرف الآخر يبدو أنها ليست في مستوى ما تأمله، والجماعة في اعتقادي تراهن على تقديم نفسها تنظيما يؤمن بالاختلاف والعمل المشترك، أكثر مما تراهن على البحث عن حلفاء، في ظل وضعية الانحسار التنظيمي لقوى اليسار.
تحاول الجماعة أن تكون مؤثرة هذه المرة، ليس عن طريق القوة العددية، التي جربتها في زمن مضى، فهي واعية بأن زمن الاستقطاب المكثف للأفراد من قبل الجماعات والأحزاب قد ولى، ولكن عن طريق التحول إلى حالة مجتمعية وسياسية مؤثرة (بعدد قليل من الأفراد المحترفين يمكن إنتاج فعل جماهيري)
وعودا على بدء، بدا في 2011 على المستوى الإقليمي، وكأن هناك إعادة بناء للأنظمة السياسية يكون فيها دور لقوى الإسلام السياسي ذات المرجعية الإخوانية، ثم سرعان ما تبين تهافت هذه الفرضية، وتبين أنه تم توظيف هذه القوى (بوعي منها أو بدونه) في تفكيك المنطقة، وإذكاء المزيد من النعرات المذهبية والطائفية، مما سهل عودة السلطويات بطريقة أقوى، والذي كانت قوى الإسلام السياسي الإخوانية نفسها في مقدمة ضحاياها.
فهل يمكن قراءة عودة العدل والإحسان على أنها السلسلة الأخيرة في خريف الإخوان، وصعود ربيع التيارات الإسلامية الأكثر ارتباطا بالإسلام المحلي، والأكثر تحررا من السلفية والطائفية، باعتبارها الجواب عن السياقات الحالية، بما فيها السياق الفلسطيني الذي تضرر قبلا من المأساة السورية، والذي يحاول التحرر من تداعياتها الطائفية ( وثيقة حماس الأخيرة نموذجا)؟ أم أنه الفراغ في المشهد الحزبي والسياسي سمح لقوة منظمة بأن تحاول استرجاع ما فقدته بعد 2011، من أجل ترميم ذاتها التنظيمية وإعادة بناء قنوات التفاوض والتسويات الضمنية على مقتضيات السياقات الحالية؟