خالد البكاري يكتب: ماتت “غزة” المغربية.. ولا بواكي لها
لا يتعلق الأمر باستعارة، وغزة المقصودة في العنوان فتاة مغربية، شاء لها القدر أن يشتغل أبوها في غزة/ القطاع، وشاء لها القدر أن تولد هناك، وتيمنا بالبنت والقضية حملت اسم الأرض التي ازدادت فوق ترابها، الذي احتضنها من جديد شهيدة رفقة والديها.
وللحكاية فصول أخرى لم تروها وكالات الأنباء، ولا تراشق الجيران حول أصل وجبة عابرة للحدود، ولا نريد سماعها، لأن العجز القاسي الممزوج بجبن مخز، جعلنا في الشهور الأخيرة نهرب فعلا إلى “فن اللامبالاة.
استشهد الأب والأم أولا، في رحلة النزوح جنوبا، بعد “الضمانات” التي قدمها الاحتلال، ليكون المصير كما للمئات من شهداء اقتيدوا ل”حفلة” إعدامات دنيئة، وبقيت “غزة” المغربية وهي التي بالكاد وصلت عامها الثامن، ترعى شقيقيها (أربع سنوات، وسنة واحدة)، فلما سمعت بوجود مغاربة عالقين في الشمال، عادت بأخويها إلى هناك في رحلة عكسية محفوفة بالمخاطر، وكأنها سمك ” السلمون” الذي يعود في رحلة مضادة للمنبع من أجل الموت.
بالفعل، ستنجح في الوصول للشمال، وسيكون حظ الأشقاء الثلاثة أن تحتضنهم أسرة مغربية أخرى عالقة في جحيم الشمال، حيث القصف والحصار والجوع والقناصة.
رب الأسرة المستضيفة لم يكن سوى المنسق المغربي المكلف بمغاربة غزة، الذي سيصاب بعد أسابيع بشظية في الرأس، دخل على إثرها في غيبوبة، ونقل جنوبا إلى مستشفى النجار، حيث أجرى عملية جراحية معقدة، في ظروف استشفائية استثنائية جراء نقص المستلزمات، بما فيها وسائل التعقيم.
غير أنه لإنقاذ حياته، كان يحتاج لعمليات نقل دم، والمؤسف أن فصيلة دمه نادرة، مع العلم أن أكياس الدم فيما تبقى من مستشفيات قطاع غزة، تكاد تكون مثل بيضة الديك.
وتأتي البشرى من الشمال، غزة الطفلة لها الفصيلة نفسها، وللعلم فتقريبا كل أطفال غزة يعرفون فصيلة دمهم، لتتقدم نحو مستشفى “الشفاء”، أو ما تبقى منه في الحقيقة، وتتبرع بدمها، الذي بدوره سيسافر جنوبا (الدم طبعا دون صاحبته) في مغامرة الهروب من القصف ومراوغته، ويكتب للرجل الطيب حياة جديدة.
ليلة الثلاثاء 26 فبراير الأخيرة، كان القصف الهمجي أكثر “شراسة”، أصيبت غزة.
حملها الرجل الذي أنقذته دماؤها الزكية إلى غرفة العمليات بمستشفى الشفاء، والذي بدوره كان قد عاد مجبرا للشمال بعد “شبه تعافيه” لضرورات أسرية (الكل معرض إما للقتل أو التشرد، والكل يعمل على ألا يجتمع الاثنان)، لكن الموت الذي أخطأها مرات ومرات، كان في انتظارها.
غزة (8 سنوات)، سلمى النكاف (24 سنة/ بني ملال) وطفلتها، عماد الشيخي (28 سنة)، إبراهيم عقبي (ابن مدينة تنغير، وكان يعمل سائق إسعاف لدى الهلال الأحمر الفلسطيني)، صفية الحريري (من تاونات/موظفة بالأونوروا)، خديجة أيت القاضي ( 28 سنة من الخميسات)، حفصة كيناني (39 سنة/ من تيفلت)، وطفلاها، كلثوم الشاشي ( من صفرو)، عبد السلام السراج (من ورزازات)، ثريا سيف الدين (48 سنة من وزان)، وآخرون لا نعرفهم، ولكنهم استشهدوا، وفي قلوبهم غصص.
لا يعرف كثير من المغاربة شيئا عن إخوانهم وأخواتهم من مغاربة غزة، ومغاربة فلسطين عموما.
ينقسم المغاربة في فلسطين إلى مجموعتين، الأولى هي الفلسطينيون من أصول مغربية، وهؤلاء شرع المغرب في تجنيسهم بعد إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية، بعد إثباتهم لما يفيد أصولهم المغربية، ولو كان الجد الأول قد وفد على فلسطين منذ زمن بعيد (كثير من المغاربة في الماضي كانوا يذهبون لزيارة المسجد الأقصى موازاة مع موسم الحج، ومنهم من استقر بفلسطين بعدها حتى قبل مرحلة الانتداب البريطاني)، أما الفئة الثانية فهم المغاربة غير الفلسطينيين، ممن وفدوا على الأراضي المحتلة بسبب العمل في المنظمات الإنسانية، أو من النساء المتزوجات بفلسطينيين، وهن يشكلن الغالبية هناك.
استطاع المغرب أن يؤمن خروج أغلب المغاربة العاملين هناك مع أسرهم من الفئة الثانية، فيما الفئة الأولى من الفلسطينيين المغاربة، وكذلك من المغربيات المتزوجات بفلسطينيين، قرر أغلبهم البقاء لأسباب أسرية ووطنية، ومع ذلك يجب أن نعترف بمجهودات سفارة المغرب برام الله، التي استطاعت التواصل معهم (تتوفر سفارة المغرب برام الله على قاعدة بيانات مضبوطة لكل المغاربة من الفئتين)، وتأمين إدخال حد أدنى من احتياجاتهم، بما فيها الغذائية، والتي قد تتعثر لأسباب أمنية مرتبطة بواقع القصف والمواجهات المسلحة، ويقوم مغاربة بالتنسيق بينهم في ظروف صعبة للوصول لجميع العائلات المغربية، ومنهم من هم مزدادون بالمغرب، وفضلوا البقاء للقيام بهذه المهام التطوعية.
إنهم مقاومون من نوع آخر، وباعتبار أن تركيبة المغاربة بفلسطين هي نفسها تركيبة الجزائريين هناك (أي فلسطينيون من أصول جزائرية، وجزائريات متزوجات بفلسطينيين، وجزائريين عاملين في جمعيات الإغاثة وما يشبهها، فقد استفادت الأسر الجزائرية مما توفره سفارة المغرب لمواطنيها من احتياجات، لأسباب إنسانية، ولأسباب لها علاقة بالعلاقات المتينة بين الأسر المغربية والجزائرية هناك.
ويظل مشكل الوصول للمياه الصالحة للشرب عالقا، ويكتفي المغاربة هناك بتغلية مياه البحر كما يفعل الغالبية، وتظل إمكانات التعرض للقصف أو التشرد مرتفعة جدا، وهي التي تعيق الوصول لبعض الأسر المغربية في أحايين كثيرة.
إننا بإزاء قيم حقيقية للتضامن والتضحية ونكران الذات، للأسف لا نعلم عنها إلا القليل.
والموضوعية تتطلب الاعتراف بما تقوم بها سفارة المغرب في رام الله، رغم كل الملاحظات المشروعة حول الدبلوماسية المغربية في تعاطيها مع ما يقع في غزة، ومن ذلك الإصرار غير المقبول على الاستمرار في التطبيع الرسمي مع نظام الأبارتهايد والإبادة الجماعية.