حْركة مخزنية

في يوم واحد: النيابة العامة تعلن، بعد يومين طويلين من تداول الخبر، أن هناك بالفعل طفلة محرومة من حريتها في إطار ملف تتهم فيه بالاستجابة لطلب أقاربها بشراء شرائح هاتفية لحسابهم، ومحكمة تعلن الحكم على اقتصادي وحقوقي مرموق، هو فؤاد عبد المومني، بستة أشهر حبسا نافذا لأنه تقاسم تدوينة فيها انتقاد للدولتين المغربية والفرنسية، وهيئات قضائية عديدة ومتفرقة بين عدة مدن، تلتئم لمحاكمة صحافيين ومدوّنين ونشطاء ضد التطبيع…
هذا ليس مشهدا من كوريا الشمالية أو إحدى الدول التي تعاني عجزا في مشروعية الحكم وتغطي ذلك بالإفراط في القمع وتكميم الأفواه؛ بل هو مشهد حقيقي للغاية من مغرب ما بعد المصالحة مع سنوات الرصاص ودسترة توصيات الهيئة التي أشرفت على المسار وحثّت على عدم تكرار الانتهاكات.
قد يجد من يبحث عن التبرير ألف ثغرة ومليون مقتضى قانوني بين ثنايا المدوّنة الجنائية والمساطر ومسؤولية حفظ النظام العام، وقد نعثر في كل ملف على مشتك أو مطالب بالحق المدني أو كلمة طائشة هنا وخطوة غير محسوبة هناك، لكن الصورة في النهاية واحدة: المغرب ليس بخير وصدر سلطته يضيق بالتعبيرات المنتقدة فتلجأ إلى القوة المفرطة والقمع الممنهج لإسكاتها.
وإذا كان هناك من يعتقد أنه يتقن تدبير مثل هذه الملفات بمشرط جراحة دقيق، فإن عليه أن يعلم أن “العيب” ظهر بشكل فجّ ومخيف هذا الاثنين 03 مارس 2025، كأن هذا التاريخ الذي كان المغاربة ذات عهد يحتفلون فيه بذكرى عيد عرش الحسن الثاني، قد اختير عن قصد لتذكير المغاربة بالصفحة السوداء لهذا العهد الذي اعتقدنا ذات هيئة إنصاف ومصالحة أننا قرأناه وحاسبناه واستخلصنا الدروس والعبر منه.
على رأس هذه المؤشرات المخيفة التي أطلّت علينا من جديد في هذا اليوم، تأكيد النيابة العامة توقيف طفلة إلى جانب باقي أفراد عائلتها، وايداعها في مركز نزعم جميعا أنه يوفّر تقييدا إنسانيا للحرية، يليق بالأطفال. كان الخبر منتشرا قبل يومين من ذلك، وتابعنا كيف اعتقل أفراد أسرة مواطن اختار أن يكون متحدّثا بنبرة ومضمون خاصني من خارج المغرب، لكن أحدا من المراقبين، بمن فيهم كاتب هذه السطور، لم يكن يستطيع تصديق ما نُشر.
انتظرنا انتهاء عطلة نهاية الأسبوع، وكأن الحريات تعرف الاستثناءات والعطل، وتلقّينا البلاغ الصادر عن النيابة العامة المختصة، وكم كانت الصدمة كبيرة حين وجدنا أن ضمن فقراته إقرار مؤلم بتوقيف الطفلة، ولماذا؟ لأن “الفتاة القاصر المتابعة في هذا الملف هي من تكلفت باقتناء وتوفير الشرائح الهاتفية التي تم استخدامها في ارتكاب أفعال التشهير والابتزاز والتهديد من طرف المشتبه فيه الرئيسي، الذي يرتبط معها بآصرة القرابة، ويوجد حاليا في حالة فرار خارج أرض الوطن”.
بالله عليكم هل يعقل أن يتم توقيف طفلة، باسمنا جميعا (لأن كل ما تقوم به المؤسسات الرسمية هو تصرّف باسم المجتمع ونيابة عنه)، لأنها “تسخّرات” لأقاربها؟
وبافتراض أن هذه الطفلة تسكنها روح شريرة وكانت لها النية للمشاركة في فعل مجرّم أو مخالف للقانون، ألا نملك ما يكفي من وسائل المراقبة وإجراء البحث والتحقيقات دون المسّ بحرّية طفلة مع ما يعنيه ذلك لمشاعرنا الجماعية في بداية شهر فضيل مثل رمضان؟
ثم تعالوا ننصت لهذا الحكم الذي نطق به القضاء في حق الحقوقي والاقتصادي فؤاد عبد المومني، بالحبس النافذ ستة أشهر، لماذا؟ لأنه تقاسم تدوينة لشخص آخر تتحدّث بنبرة نقدية عن علاقات بين دولتين، هما فرنسا والمغرب، ولا تتضمن أي اتهام أو سبّ أو قذف لأي شخص، بل تتحدّث عن الدولتين.
هل تحوّلت الدول إلى أصنام دون علمنا؟
أبهذه السهولة أصبحت حرياتنا وحقوقنا مستباحة؟
وحتى تكتمل “الباهية” كان على الصحافي حميد المهداوي أن يمثل في اليوم نفسه أمام محكمة الاستئناف بالرباط، ليواجه… وزير العدل شخصيا الذي قدّم شكاية ضده وطالبه بمليار سنتيم كتعويض.
وفي اللحظة نفسها كانت محكمة تنعقد في خريبكة للنظر في ملف محمد بوستاتي المعتقل بسبب تدوينات، وأخرى تجتمع في طنجة، للنظر في ما كتبه رضوان القسطيط عبر منصات التواصل الاجتماعي، وثالثة تحاكم الصحافية لبنى الفلاح في الدار البيضاء…
حْركة مخزنية معتّقة صافي.
لا يمكن لكل هذا الخوف أن يجتمع علينا في يوم واحد بالصدفة. هناك نزوع واضح يسكن ركنا من أركان الدولة نحو فرض الصمت وتكميم الأفواه وتعميم “الأمر اليومي” الموحّد كي يردّده الجميع.
وهناك من لا تعجبه إشارات التنفيس والانفتاح الإيجابية التي تحرص الدولة على بعثها بوضوح بين الفينة والأخرى.
وهناك من ينفخ في جمر الاحتقان والتوتّر والضغط…
ولكل هؤلاء نقول: لن يسامحكم التاريخ.