story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

حين تجلس الدولة في المدرجات

ص ص

أثار حضور وزير الداخلية لنهائي كأس العرب، على غير المألوف في الأعراف الرياضية، تساؤلات مشروعة تتجاوز منطق التشريف والبروتوكول إلى منطق الدلالة السياسية. فالعادة جرت أن يقتصر التمثيل الرسمي في مثل هذه التظاهرات على رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم، وربما الوزير الوصي على القطاع، غير أن ظهور وزير الداخلية، وهو أحد أعمدة الدولة السيادية وأكثرها ارتباطًا بتدبير الملفات الداخلية الحساسة، يفتح باب القراءة السياسية الهادئة، لا من باب الجزم، بل من زاوية الإشارة الذكية التي تُتقنها الدول حين تفضّل الرسائل الصامتة على التصريحات المباشرة.

هذا الحضور لا يمكن فصله عن التحول العميق الذي عرفه موقع الرياضة، وكرة القدم تحديدًا، داخل الاستراتيجية العامة للدولة المغربية. لم تعد الرياضة مجالًا تنافسيًا أو ترفيهيًا صرفًا، بل تحولت إلى أداة من أدوات السيادة، تُدار بمنطق الدولة لا بمنطق القطاع، وتُستثمر ضمن ما يُعرف في علم السياسة بالدبلوماسية الناعمة المعزَّزة بأدوات الدولة الصلبة. فالمغرب، وهو يراكم إنجازاته الرياضية، لا يمارس الإغراء الرمزي فقط، بل يؤطر هذا الرأسمال الرمزي بأبعاد أمنية ودبلوماسية ومؤسساتية، بما يجعل الرياضة امتدادًا للسياسة بوسائل أكثر قبولًا وفعالية.

حين نجح المغرب في مونديال قطر، وحين حضر مسؤولون سياديون رفيعو المستوى إلى جانب وزير الخارجية ورئيس الجامعة في محطات رياضية مفصلية، كان ذلك إعلانًا غير مباشر بأن ملف كرة القدم أصبح قضية دولة. واليوم، يتعزز هذا المعنى بحضور وزير الداخلية، المعروف بثقل مهامه، وانشغاله بملفات استراتيجية من قبيل الاستحقاقات الانتخابية، وبرامج التنمية الترابية، والهندسة المجالية الجديدة، والمساهمة في إعداد الأرضية التفاوضية حول الحكم الذاتي. حضور كهذا لا يُفهم باعتباره فراغًا في الأجندة، بل باعتباره اختيارًا محسوبًا، لأن في السياسة ما لا يُنجز إلا خارج قاعات الاجتماعات الرسمية.

في علم السياسة والعلاقات الدولية، تُعد الأحداث الرياضية الكبرى فضاءات موازية للدبلوماسية غير الرسمية، حيث تُمرر الرسائل وتُدبّر التوترات بعيدًا عن الأضواء. نهائي كأس العرب، في هذا السياق، لا يظهر فقط كمباراة، بل كمنصة رمزية تسمح بالتواصل الهادئ، وتبادل الإشارات، وربما ترتيب بعض الملفات دون إعطائها الطابع الرسمي الذي قد يقيّد هامش الحركة. من هنا، يصبح طرح فرضية وجود لقاءات أو رسائل على الهامش أمرًا مشروعًا في منطق التحليل، لا في منطق الاتهام أو الجزم.

كما لا يمكن عزل هذا الحضور عن السياق الرقمي والإعلامي المتوتر، حيث أُثيرت في الآونة الأخيرة نقاشات حول منصات وحسابات تهاجم المغرب ورموزه، وما رافق ذلك من قراءات سياسية متباينة. في مثل هذه الحالات، تختار الدول الرصينة الرد عبر التموقع لا عبر البلاغات، وعبر الصورة لا عبر التصعيد. حضور وزير الداخلية هنا يمكن قراءته كإشارة سيادية هادئة مفادها أن الدولة المغربية تراقب، وتفهم، وتتحرك حين يلزم، دون الحاجة إلى رفع الصوت أو توتير العلاقات.

العلاقة بين المغرب وقطر، في هذا الإطار، تظل علاقة مركبة، تُدار بمنطق التوازن بين التعاون والاختلاف، دون قطيعة ودون اندماج كامل. وهي علاقة تُضبط اليوم ضمن ما يمكن تسميته “المنطقة الرمادية الذكية”، حيث تُفضَّل البراغماتية على الانفعال، والتدبير الهادئ على المواجهة العلنية. ومن ثم، فإن القول بوجود تطورات تُحضَّر بهدوء لا يخرج عن منطق السياسة الواقعية التي تعتمدها الدول في إدارة علاقاتها المتشابكة.

وفي المحصلة، وبغض النظر عن تعدد التأويلات، تبقى الحقيقة الأكثر وضوحًا أن المغرب لم يفز فقط بكأس العرب، بل أكد مرة أخرى أنه يُدرك جيدًا أن الرياضة اليوم جزء من معادلة القوة، وأن السيادة الحديثة لا تُمارَس فقط عبر الحدود والمؤسسات، بل أيضًا عبر المدرجات، والصور، واللحظات الرمزية المحسوبة. وحين تحضر الدولة بكل ثقلها في مباراة نهائية، فذلك يعني أن الأمر يتجاوز الفوز الرياضي إلى ترسيخ موقع، وتأكيد رسالة، مفادها أن المغرب حين يلعب يفوز، وحين يُدبّر يتقدم بثبات.