story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
سياسة |

حين تتحوّل الشاشات إلى جبهة هجوم على مؤسسات الدولة

ص ص

خاضت قناة “جبروت”، المجهولة المصدر والدوافع حتى الآن، حربها الساخنة على مؤسسات الدولة المغربية. في نسختها الأولى، استهدفت مؤسسات مثل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ثم الوكالة الوطنية للمحافظة العقارية. لكنها عادت في نسخة ثانية منذ يونيو الماضي للهجوم على شخصيات سامية في الدولة، بل وعلى المؤسسة الملكية ذاتها.

ورغم شراسة الهجوم، يبدو واضحا أنه يحاول ضرب الثقة بين المغاربة ومؤسساتهم الحيوية مثل الملكية والأجهزة الأمنية، بل زرع بذور الشك بين هذه الأخيرة كذلك.

لكن الدولة تبدو لحد الآن وكأنها غير معنية بما يحدث، باستثناء بعض التحركات المحدودة؛ حيث أعلن قطب الأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني أن موظف الأمن (ع، ن) قد تقدم بشكاية أمام الوكيل العام للملك بالدار البيضاء “على خلفية الادعاءات الوهمية والجرائم المزعومة التي نسبها له حساب يحمل اسم “جبروت”، أو الإعلان في السياق نفسه عن تعيين الجنرال عبد الله بوطريك على رأس المديرية العامة لأمن أنظمة المعلومات.

تجاهل “جبروت” كان ممكنا، لولا أن وزير العدل عبد اللطيف وهبي أكّد صدقية ما بعض ما نشرته من وثائق تخص الوزير وهبي نفسه. كما أن خروج عبد الإله بنكيران للهجوم على القناة نفسها، بعد استهدافها لولي العهد الأمير مولاي الحسن، جعل خيار الصمت الرسمي غير فعال.

في هذا السياق، جاء تحرك قطب الأمن الوطني برفع موظفها (ع.ن) شكاية ضد القناة، مع توفير حماية الدولة له، مؤكدا أنه تفاجأ بإقحام اسمه في “جرائم وهمية”، بل نسبت له “وقائع مختلقة مشفوعة بوثيقة مزوّرة”، وباستعمال “معطياته الشخصية بشكل تدليسي، بما في ذلك رقم هاتفه الشخصي المسجل باسمه”، ملتمسا من الوكيل العام للملك “فتح بحث قضائي لتحديد الجهة أو الجهات التي استخدمت اسمه في وقائع وهمية وفي جرائم مزعومة”.

أما الخطوة الثانية فقد تمثلت في تعيين الملك محمد السادس، بصفته القائد الأعلى ورئيس أركان القوات المسلحة الملكية، الجنرال عبد الله بوطريك مديرا عاما للمديرية العامة لأمن نظم المعلومات.

لكن بلاغ هذه الأخيرة لم يشر إلى قناة “جبروت”، بل أدرج التعيين ضمن “الجهود التي تبذلها المملكة المغربية لتعزيز منظومة الأمن السيبراني، وتأكيد التزامها بحماية الفضاء الرقمي الوطني باعتباره رهانا استراتيجيا لمواكبة التحول الرقمي في بلادنا”. مكتفيا بالإشارة إلى المسار المهني والخبرة المهنية للمسؤول الجديد.

لكن وسائل الإعلام التي واكبت القرار الملكي، ربطت بين تعيين الجنرال بوطريك وبين الحرب الساخنة التي تقودها قناة “جبروت” على مؤسسات الدولية المغربية.

ربط قد لا يكون دقيقا، لأن تعيين مسؤول جديد قد يكون بسبب تقاعد المسؤول السابق فقط. ولأن ربط تعيين الجنرال بوطريك بالهجوم المتواصل لقناة “جبروت” يعني تحميل مسؤولية الاختراق الحاصل لبعض المؤسسات أو الوصول إلى بيانات حساسة لمسؤولين كبار في الدولة للجنرال السابق، علما أن بوطريك كان من الفريق القيادي نفسه بالمديرية العامة، ما يجعل الربط بين قرار تعيين بوطريك وهجمات قناة “جبروت” مجرد ادعاء يحتاج إلى دليل، علما أن الهجمات السيبرانية ضد المغرب ما فتئت تتصاعد في السنوات الأخيرة، ويعد المغرب بحسب تقارير “الأنتربول” من بين الدول الأكثر استهدافا بالبرمجيات الخبيثة والهجمات السيبرانية في افريقيا.

لا يعني استبعاد ربط تعيين الجنرال بوطريك بهجمات “جبروت” التهوين من خطورة هذه الأخيرة، لأنها تضرب الثقة الرقمية بين المواطن ومؤسسات الدولة، كما تكشف عن محدودية أنظمة الحماية في مشروع التحول الرقمي الوطني، الذي ركّز كثيرا على الرقمنة، دون الانتباه إلى أولوية الحماية أيضا، ما يجعل مؤسسات حيوية والبيانات الشخصية للمواطنين عرضة للاختراق، ويطرح مرة أخرى السؤال حول نتائج استراتيجيات الأمن السيبراني والسيادة الرقمية في مشروع التحول الوطني للمغرب نحو فاعل رقمي على الصعيد الإقليمي.

بيد أنه لا يجب التهويل من خطورة هجمات “جبروت” أيضا، لأن الدول، ومهما كان مستوى تقدمها التكنولوحي، تكابد صعوبات في مواجهة الهجمات السيبرانية، كما تواجه تعقيدات في تحديد الجهة أو الجهات التي تقوم بالهجوم، بالنظر إلى صعوبات الإثبات في بيئة شديدة التعقيد، حيث يمكن لقوى كبرى أن تخسر المعركة.

ففي 2015، مثلا، تمكن قراصنة من الوصول إلى أجهزة الكمبيوتر التابع لمكتب إدارة الموظفين التابع للحكومة الأمريكية، وتمكنوا من سرقة المعلومات الشخصية (أرقام الضمان الاجتماعي، وبصمات الأصابع، وما إلى ذلك) لنحو 21 مليون شخص.
أما في شتنبر2021، فقد أدى هجوم استهدف أنظمة الكمبيوتر التابعة لمؤسسة المساعدة العامة في مستشفيات باريس بفرنسا إلى اختراق والسيطرة على المعطيات الشخصية لـ1.4 مليون شخص خضعوا لاختبارات كوفيد-19 في منطقة “إيل دو فرانس”.

وعليه، إذا كان الهجوم السيبراني التي تشنه قناة “جبروت” على المؤسسات والشخصيات السامية في الدولة يظل تحديا حقيقيا بالنظر إلى الأهداف السياسية الصريحة للجهة أو الجهات التي تقف وراء هذا الهجوم، والتي توجه أسلحتها حتى الآن نحو المؤسسات السياسية والأمنية في الدولة، بل نحو المؤسسة الملكية ذاتها، بشكل يكشف عن رغبة واضحة لدى تلك القوى لضرب الثقة الرقمية وبث الفوضى، وبالتالي خلخلة الأمن والاستقرار.

إلا أن تلك الهجمات تشكل مرة أخرى فرصة للتساؤل حول صلابة الخيارات المنتهجة لتطوير منظومة الحماية والأمن السيبراني، ومدى قدرتها على التصدي للهجمات السيبرانية وتعزيز السيادة الرقمية في هذا المجال.

الأمن السيبراني.. ذراع رابع للجيوش الحديثة

يقصد بالأمن السيبراني مجموعة من الاستراتيجيات والسياسيات والخطط والإجراءات التقنية لتأمين السيادة الرقمية للدول، في مواجهة الهجمات والاختراقات السيبرانية وما يمكن أن ينتج عنها من أضرار على الأفراد أو المؤسسات والدول. ظهر كمفهوم خلال الحرب الباردة، وخصوصا بعد السبعينيات من القرن الماضي، لحماية أجهزة الحاسوب من “فيروسات”. ثم تطور مع ثورة الانترنيت وأنظمة الحاسوب في بداية التسعينيات، بحيث صار وسيلة أمنية وحربية دولية أساسية. وقد اعتبرته جامعة هارفرد الأمريكية بأنه “الذراع الرابعة للجيوش الحديثة”.

ويستعمل الهجوم السيبراني لسرقة البيانات، والاحتيال والسرقة، عبر الوصول بطرق غير قانونية إلى قاعدة معطيات أو بيانات مالية أو طبية أو عسكرية أو أمنية سرية، سواء بغرض التلاعب في أنظمة إلكترونية عن بعد، أو تفجير أجهزة عن بعد، أو تعطيل أنظمة، أو غير ذلك.

ويهدف الأمن السيبراني إلى حماية المعدات والأنظمة الأساسية التالية: أمن البنية التحتية (الاتصالات والنقل والطاقة وغيرها)، أمن الشبكات، أمن التكنولوجيا السحابية، أمن انترنيت الأشياء (الأجهزة الذكية المرتبطة بالإنترنيت)، وكذا أمن التطبيقات.

مما لا شك فيه أن الأمن السيبراني، بالمعنى السابق، يطرح تحديات جديدة على الدول، ما دفعها إلى تطوير استراتيجيات لتحقيق الأمن السيبراني، خصوصا وأن التطوّر الرقمي بقدر ما يعتبر فرصة فهو تهديد، كونه ساهم في تعزيز سيادة الدولة، كما في انكشافها. فهو من جهة يعزز ما بات يسمى بـ”السيادة الرقمية”، أو “السيادة على البيانات”، وبالتالي تشكيل فضاء جديد لممارسة السيادة هو الفضاء السيبراني.

ومن تجليات ممارسة السيادة الرقمية، مثلا، قيام الحكومات بقطع الانترنيت في أوقات الأزمات، أو التحكم في البرمجيات والخوارزميات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، أو فرض الرقابة الصارمة على المحتوى أو حتى حرية الولوج إلى الإنترنيت…الخ.
فهو مجال جديد للتعبير عن سيادة الدولة، وإظهار قوتها أو كسب مساحات نفوذ جديدة، ومن أبرز الدول التي تلجأ لهذه الممارسات بكثافة الصين الشعبية، التي أقامت ما تسميه “الجدار الناري العظيم”.

لكن على الرغم من كل ذلك، برز تيار آخر يرى أن الأمن السيبراني يحمل في طياته تهديدا لسيادة الدول، بسبب عمليات الاختراق والهجمات السيبرانية المتكررة، التي قد تتعرض لها من قبل أفراد أو شركات أو جماعات أو حتى دول؛ وهي ممارسات أصبحت اعتيادية بين الدول المتنافسة أو المتصارعة (إيران وإسرائيل/ الصين وأمريكا..)، بحيث صار الحديث عن مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية مثل “الحروب السيبرانية”، والدفاع السيبراني والهجوم السيبراني، والردع السيبراني، وهي لغة حربية تماما.

كما صار من الصعب الفصل بين المستوى الإجرامي في هذا المجال (الاختراق، سرقة البيانات، القرصنة…) الذي قد يقوم به أفراد أو جماعات بغرض الربح أو غيره، وبين المستوى العسكري حيث صار الفضاء السيبراني مجالا جديد لاختبار القوة والنفوذ.

والملاحظ فعلا أن بعض الدول تستغل ما يسمى بـ”التفوق السيبراني” لديها، أو “الردع السيبراني”، لإبراز السيادة وممارسة النفوذ على الدول والقوى الأخرى لأغراض سياسية محددة.

ويمكن رصد السمات السياسية لمثل هذه الممارسات من خلال بعض الهجمات السيبرانية حيث تدور الشبهات حول دول بعينها، من قبيل الهجوم السيبراني على أوكرانيا عام 2015، والذي أسفر عن قطع الكهرباء عن ربع مليون أوكراني. علما أن الدول المتضررة تجد صعوبة في إثبات تورط الدول المهاجمة، بالنظر إلى سرية وتعقيد تلك الهجمات.

لكن من المؤكد أن تلك الممارسات تعكس لجوء الدول المتصارعة إلى الساحة السيبرانية لاستكمال صراعاتها السياسية وبسط نفوذها العسكري والسياسي، مستفيدة من حجم الغموض والتعقيد الذي يميزه. ما جعل الفضاء السيبراني بمثابة ساحة جديدة للاتهام والتشويه والهجوم والتعدي.

عموما، تسعى الدول من وراء سياسة الأمن السيبراني إلى رصد وكشف وجمع المعلومات الاستخبارية عن التهديدات المحلية والجهات الفاعلة داخل حدودها؛ وتقوية وتعزيز الدفاعات السيبرانية الوطنية لحماية المؤسسات والأنظمة الحكومية الوطنية؛ والتحكم في بيئة المعلومات ومعالجتها، بما في ذلك تنظيف السرديات والروايات الرائجة في الداخل والخارج من الأضرار التي قد تلحق بها أو بمواطنيها؛ وجمع المعلومات الاستخبارية من دول أخرى لحماية الأمن القومي، من قبيل انتزاع أسرار وطنية من خصم أجنبي كالمعلومات السرية عن الاتفاقيات، والخطط العسكرية السرية وسرقة الملفات والوصول إلى اتصالات المسؤولين؛ وتحقيق المكاسب التجارية أو تعزيز وحماية نمو الصناعة المحلية، خصوصا صناعة التكنولوجيا المحلية الخاصة سواء عبر وسائل قانونية مشروعة، أو غير مشروعة كالتجسس الصناعي ضد الشركات الأجنبية لتيسير نقل التكنولوجيا.

كما تسعى الدول إلى تدمير أو تعطيل البنية التحتية للخصوم، خصوصا من يتوفر منهم على تقنيات وتكتيكات وإجراءات إلكترونية مدمرة؛ والمساهمة في تطوير وتحديد القواعد والمعايير التقنية الإلكترونية الدولية، لدعم ركائز النظام العالمي، ودعم السلم والأمن الدوليين.

مسار مغربي..

أدرك المغرب مبكرا أهمية مواكبة التطور التكنولوجي، في البداية بدافع أمني لمواجهة الجريمة الإلكترونية، ثم تطورت المقاربة لتشمل البعد الاقتصادي، قبل أن تتطور نحو منظور استراتيجي شامل يهدف إلى تحقيق السيادة الرقمية.
في هذا السياق يمكن الحديث عن مسارات متكاملة، بصرف النظر عن النقائص والثغرات القائمة، وهي:

المستوى الأول ذو طبيعة استراتيجية، حيث راكم المغرب ثلاث استراتيجيات تعكس تطور المقاربات السابقة الذكر، الأولى عبّرت عنها “استراتيجية المغرب الرقمي” لـ 2009-2013 سعت إلى وضع البنيات الأولى في مسار التحول الرقمي من قبيل وضع قوانين وإحداث مؤسسات سيأتي ذكرها لاحقا.

وفي 2014 أطلق المغرب استراتيجية ثانية في أفق 2020 تحت مسمى “استراتيجية المغرب الرقمي 2020″، عبّرت عن تصور أوسع للأهداف والأولويات، إذ سعت إلى تسريع وثيرة التحول الرقمي في أفق جعل المغرب مركزا إقليميا للتحول الرقمي، وبالتالي في قلب التحول الرقمي العالمي.

وفي 2024، وضعت الحكومة استراتيجية ثالثة في أفق 2030، باسم “استراتيجية التحول الرقمي 2030″، بأهداف جديدة ترمي إلى تحقيق أهداف أكبر على رأسها السيادة الرقمية عبر توطين التكنولوجيا الرقمية والسحابية في المغرب، خصوصا البيانات الحسّاسة المتعلقة بالأمن القومي المغربي، وهو هدف كبير بالنسبة لدولة محدودة القوة والموارد مثل المغرب، إذ يتطلب إنتاج حلول رقمية مغربية، وبالتالي تأهيل موارد بشرية وقطاع خاص وتعبئة موارد مالية.

والمؤكد أن هذا المسار تتداخل الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية، مع الأبعاد الأمنية والعسكرية. وهو التداخل الذي جعل المغرب يُسند عملية التحول الرقمي في بعده المدني، أي الاقتصادي والتكنولوجي، إلى وزارة التكنولوجيا والانتقال الرقمي، لكن القيادة والإشراف الاستراتيجي تظل بيد إدارة الدفاع الوطني، من خلال المديرية العامة لأمن نظم المعلومات، ثم من خلال اللجنة الاستراتيجية للأمن السيبراني التي يترأسها الوزير المنتدب في الدفاع الوطني، وعضوية مفتشيات متخصصة في القوات المسلحة الملكية، والدرك الملكي، ووزارة الداخلية، وأجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية، ووزارة الخارجية، ووزارة الاقتصاد والمالية، ووزارة الصناعة والاقتصاد الرقمي.

المستوى الثاني قانوني تشريعي، حيث بات المغرب يتوفر على ترسانة قانونية، تطورت بالتدريج منذ 1998، في البداية بدافع مواجهة الجريمة الإلكترونية وحماية المعطيات الشخصية، ثم بدافع جعل التحول الرقمي رافعة للاقتصاد الوطني والإدارة والمؤسسات العمومية والقطاع الخاص، وفي مرحلة لاحقة التطلع إلى تحقيق السيادة الرقمية.

وعموما، يتوفر المغرب اليوم على ترسانة تشريعية بدأت بوضع القانون ينظم البريد والاتصالات لسنة 1998، ثم القانون رقم 07-03 المتمم للقانون الجنائي المتعلق بالجرائم المتعلقة بالمعالجة الآلية للمعطيات لسنة 2003، وكذا القانون المتعلق بالتبادل الالكتروني للمعطيات القانونية لسنة 2007، والقانون المتعلق بحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي لسنة 2009، والقانون القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلكين لسنة 2011، ثم القانون المتعلق بالمصادقة على الاتفاقية العربية لمكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة 2013، ثم القانون المتعلق بالمصادقة على الاتفاقية الأوروبية 108 المتعلقة بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي. علاوة على قوانين ومراسيم أخرى، لعل أهمها في تطور هذا المسار التشريعي القانون المتعلق بالأمن السيبراني لسنة 2020.

وقد استلزم هذا التطور التشريعي، تطوير المستوى المؤسساتي، بدأ بإحداث الوكالة الوطنية لتقنين الاتصالات سنة 1998، وفي 2003 جرى إحداث مختبر التحليل الجنائي للجرائم المتعلقة بالمعالجة الآلية للمعطيات على مستوى الشرطة القضائية. وفي سنة 2010، جرى إنشاء الهيئة الوطنية لحماية المعطيات ذات الطابع الشخصي.

كما شهدت 2011 إحداث اللجنة الاستراتيجية لأمن نظم المعلومات، كما سبق الذكر، التي تحديد التوجهات الرسمية للدولة في المجال الرقمي بقيادة مؤسسات عسكرية وأمنية ومدنية.

وفي نفس السنة جرى على مستوى إدارة الدفاع الوطني إحداث المديرية العامة لأمن نظم المعلومات بمرسوم، وهي جهاز تنفيذي موكول له تطوير وتنفيذ استراتيجية وطنية لأمن السيبراني، والملاحظ أنه في سنة 2012 جرى الحديث لأول مرة عن استراتيجية مغربية للأمن السيبراني.

وتنزيلا لها قامت إدارة الدفاع الوطني سنة 2016 بإعداد مرسوم بشأن تحديد إجراءات حماية نظم المعلومات الحساسة للبنيات التحتية ذات الأهمية الحيوية، في حين أصدر رئيس الحكومة قرارا يحدد شروط المتعهدين الخواص لافتحاص نظم المعلومات الحساسة للبنيات التحتية ذات الأهمية الحيوية وكذا كيفيات إجراء هذا الافتحاص.

وبموجب قانون الأمن السيبراني لسنة 2020 تم إحداث “اللجنة الاستراتيجية للأمن السيبراني” الموكول لها إعداد التوجهات الاستراتيجية للدولة في مجال الأمن السيبراني، والسهر على ضمان صمود نظم معلومات الهيئات والبنى التحتية ذات الأهمية الحيوية. تعمل تحت رئاسة الوزير المنتدب في الدفاع الوطني، وعضوية مفتشيات مختصة في القوات المسلحة الملكية، والدرك الملكي، وأجهزة الاستخبارات والأمن الوطني، ووزارات الداخلية والمالية والصناعة.

ومن مهام اللجنة إجراء تقييم سنوي للمديرية العامة لأمن نظم المعلومات، الممثلة بدورها داخل اللجنة. كما تقوم بتقييم عمل لجنة أخرى محدثة بموجب القانون نفسه وهي “لجنة إدارة الأزمات والأحداث السيبرانية الجسيمة”، مكلفة بضمان تدخل منسق في مجال الوقاية وتدبير الأزمات على إثر وقوع حوادث أمن سيبراني.

السيادة الرقمية

بالرغم من الجهود المتواصلة لإنجاز التحول الرقمي في المملكة، تبدو الحصيلة محدودة حتى الآن، وتعاني من ثغرات ونقائص، تجعل الاستراتيجية الوطنية الشاملة غير مكتملة حتى الآن.

مرجعية هذا التقييم السريع توجد في ثلاثة تقارير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، أنجزها بعد استكمال تنفيذ الاستراتيجية الأولى (المغرب الرقمي 2013)، ثم الاستراتيجية الثانية (المغرب الرقمي 2020). وهي تقارير منشورة على موقع المؤسسة، أنجزت خلال سنوات 2021 و2023 و2024 على التوالي.

بخصوص التقرير الأول بعنوان “نحو تحول رقمي مسؤول ومدمج” لسنة 2021، أشار المجلس إلى أن التحول الرقمي تمليه الحاجة إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية. لأن الرقمنة باتت محركا لعولمة المبادلات بمختلف أنواعها. وقد أسهم ذلك في بروز فاعلين رقميين، تدور أنشطتهم حول الرقمنة والتكنولوجيا الرقمية. وقد كرّست جائحة كورونا الحاجة إلى هؤلاء الفاعلين، إذ مكنت الرقمنة قطاعات حيوية من مواصلة أنشطتها رغم قيود حالة الطوارئ الصحية.

ويشير التقرير إلى كل الجهود التي أنجزها المغرب منذ 2007، بما في ذلك الإجراءات والآليات التي قامت بها الحكومات المتعاقبة للتحديث الإداري مثل “إدارتي” المخصصة للمساطر الإدارية، وغيرها من المبادرات والبرامج التي ترمي إلى النهوض بالخدمات العمومية الرقمية.

لكن التقرير خلص إلى أن التقدم المحرز لم يخف النقص البنيوي في المجال، إذ صنّف مؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية لسنة 2020 المغرب في المرتبة 106 من بين 193 بلدا في العالم. كما حلّ على مستوى الأدوات والتجهيزات والبنيات التحتية الضرورية للتحول الرقمي في المرتبة 100 بين 176 بلدا على صعيد “مؤشر تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات” للاتحاد الدولي للاتصالات التابع للأمم المتحدة. ويفسر المجلس هذا الوضع، بالتأخر في تنفيذ استراتيجيات المغرب الرقمي، خصوصا في قطاعات مثل التعليم والإدارة والصحة، وفي مختلف قطاعات الصناعة، وبسبب ضعف إنتاج محتوى رقمي وطني، وغياب فاعلين تكنولوجيين محليين، وغياب خارطة وطنية للذكاء الاصطناعي.

وقد أوصى التقرير، من بين توصيات عديدة ترمي إلى تسريح التحول الرقمي للمملكة، بـ”تطوير مراكز معطيات سيادية، بما يمكن من التوطين والتخزين الآمن للأنشطة الرقمية الاستراتيجية للدولة والمقاولات”، أي امتلاك السيادة الرقمية في هذا المجال.

وفي 2023، أعد المجلس الاقتصادي والاجتماعي تقريرا جديدا حول “تكنولوجيا السحابية (Cloud)” باعتبار أن هذه التكنولوجيا تعد “رافعة استعجالية لتسريع التحول الرقمي”، من أجل تسليط الضوء على العوامل التي تسهل اعتماد واستعمال التكنولوجيا السحابية من طرف الفاعلين من أجل تسريع التحول الرقمي للمملكة، مع ضمان السيادة على المعطيات الحساسة والحيوية.

وقد ربط تقرير “التحول الرقمي” بين الأمن السيبراني وحماية المعطيات الشخصية، وأوصى التقرير، من بين توصيات أخرى، باعتماد توجه استراتيجي يرمي إلى تحقيق “الدولة الرقمية والعصرية”، عبر “تحسين الأمن السيبراني والسيادة الرقمية من أجل تحول رقمي مسؤول”، بهدف “تحسين صمود البنيات التحتية، وتحقيق ثقة رقمية قوية، وموثوقية المعلومات، عبر تقوية دور اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، وتسريع وتيرة الملاءمة مع المعايير الدولية، وتعميم التوقيع الإلكتروني”.

والمعلوم في هذا المجال أن التكنولوجيا السحابية رافعة ضروري لأي تحول رقمي، وهي بنية تحتية أساسية تتيح تخزين وحماية المعطيات عبر خوادم متفرقة وسهلة الولوج عن طريق الانترنيت. وتتيح التكنولوجيا السحابية الوصول السريع إلى البنيات التحتية والخدمات الرقمية المشتركة، مما يسمح بتخفيض التكاليف المرصودة للبنية التحتية المعلوماتية داخل إدارة أو مقاولة بنسبة قد تصل إلى 20 في المائة.

كما تعتبر التكنولوجيا السحابية دعامة حاسمة في مجل التنقل الذكي، والمراقبة عن بعد، والولوج التلقائي إلى الخدمات والبث المباشر، ومن تم لإنجاح تنظيم تظاهرات دولية كبرى، على غرار كأس العالم لكرة القدم. وبالرغم من أهمية هذه التكنولوجيا، إلا أن التقرير سجل ضعف اعتماد الفاعلين المغاربة لهذه التكنولوجيا، وأن المبادرات ما زالت محتشمة، بحيث لم تتجاوز نسبة اللجوء إلى هذه التكنولوجيا في تخزين المعطيات الرقمية 14 في المائة سنة 2020، في حين بلغت النسبة 35 في المائة في أوربا الغربية و51 في المائة في آسيا-المحيط الهادئ.

ولعل من بين الرهانات الاستراتيجية للولوج إلى التكنولوجيا السحابية، امتلاك الدولة للسيادة الرقمية على معطيات الأمن الرقمي، بحيث بات الرهان على السيادة الرقمية انشغالا رئيسا لدوائر القرار في العالم، وليس في المغرب فقط، خصوصا بعدما باتت تتركز سلطة القرار الرقمي في يد عدد قليل من الفاعلين العالميين في هذا المجال بين أمريكا (مجموعة GAMMA) أو في الصين (مجموعة BATEX). وترتكز السيادة الرقمية في هذا السياق على ركيزتين: سيادة المعطيات، والسيادة التكنولوجية. تتعلق الأولى بالموقع الجغرافي للخادم السحابي الذي يتم فيه تخزين ومعالجة المعطيات، والأشخاص الذين يمكنهم الوصول إلى المعطيات والتصرف فيها، وأخيرا القوانين المعمول بها. أما الركيزة الثانية فتهم الجانب التكنولوجي المتعلق بالتمكن من مهارات استخدام البرمجيات والأجهزة، وبالنظر إلى الآليات والوسائل اللازمة لتحقيق السيادة الرقمية.

وتعتمد القوانين التي تتيح الوصول إلى معطيات المنظمات والمقاولات وحمايتها اعتمادا وثيقا على الموقع الجغرافي للخادم السحابي، الذي تخزن فيه المعطيات (توطين المعطيات). ويجب أن تمتثل نظم المعلومات والمعطيات الحساسة في قطاعات الأعمال الحيوية (الأمن والشؤون الخارجية والمالية والاتصالات السلكية واللاسلكية والبنوك والصحة وغيرها) للقوانين المتعلقة بإيواء المعطيات.

ولعل التحدي الرئيسي بالنسبة للمغرب، ولكل دول الجنوب العالمي، يكمن في كيفية الوصول إلى إيواء المعطيات والتطبيقات ذات الطبيعة الحساسة (الأسرار/المعطيات السرية التي يحميها القانون، المعطيات المتعلقة بمهام أساسية للدولة) على التراب الوطني، وإدارتها من طرف الفاعلين في مجال التكنولوجيا السحابية الخاضعين قانونا للتشريعات الوطنية. وذلك ضمانا لسيادة القوانين الوطنية للأمن السيبراني وحماية للمعطيات ذات الطابع الشخصي، وللبيانات الحساسة.

ورغم أن بعض الدول لا تحرص على إيواء جميع المعطيات داخل التراب الوطني باستثناء ما تعتبره معطيات حساسة. إلا أن التقرير يرى تعزيز التدابير الأمنية مثل التشفير وإخفاء الهوية وعمليات التدقيق الأمني التي يجريها الأغيار والامتثال للمعايير الأمنية المعمول بها. ويرى التقرير أنه بغض النظر عن إيواء المعطيات، “يتعين اعتماد مقاربة الثقة المعدومة، والتي تتمثل في تقليص الثقة الضمنية الممنوحة للمستعملين والخدمات في إطار النموذج التقليدي لحماية المعطيات”. وتقتضي مقاربة “الثقة المعدومة” عدم الوثوق افتراضيا بأي مستعمل أو جهاز أو نظام داخل الشبكة أو خارجها، وبالتالي التحقق الدائم والتأكيد المستمر عند طلب الوصول إلى معلومات.

ومن بين الرهانات الاستراتيجية للتكنولوجيا السحابية، كذلك، تعزيز الموارد السحابية، لتسريع التحول الرقمي، ما يتطلب أهمية الاستثمار في إنشاء بنيات تحتية مشتركة لخدمات التكنولوجيا السحابية على المستوى الوطني. بحيث يفضي إلى منافع اقتصادية مهمة، وتحويل المغرب إلى قطب رقمي إقليمي فعلا. وهو رهان غير منفصل عن تطوير خدمات التكنولوجيا السحابية، التي تعد ضرورية للتحولات الرقمية لجميع القطاعات، إذ توفر حلولا لنقل المعرفة في العديد من المجالات. ويبدو أن استراتيجية المغرب الرقمي لسنة 2030، تتجه إلى بناء سيادة رقمية للمغرب، بما في ذلك توطين الخوادم فوق التراب الوطني، بما يجعل من المغرب مركزا إقليميا للتكنولوجيا السحابية في المنطقة.

أما التقرير الثالث للمجلس الاقتصادي والاجتماعي، فقد خصصه للذكاء الاصطناعي، بناء على توصية وردت في التقرير الأول حول التحول الرقمي لسنة 2021، الذي أوصى بـ”جعل الذكاء الاصطناعي أولوية في ورش التحول الرقمي لبلادنا”.

ويعرّف الذكاء الاصطناعي بأنه “نظام آلي قادر، لأهداف معينة، على تقديم توقعات أو توصيات أو اتخاذ قرارات تؤثر على البيئة المحيطة”. بحيث يمكن استعمال الآلة من أجل إنجاز عمليات ذهنية ومعرفية كان حتى الأمس القريب حكرا على الإنسان. ومن شأن التطور السريع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أن تؤثر على مهام الإنسان، وتبرز على المستوى العالمي مقاربتان: الأولى ترى أن الذكاء الاصطناعي سيقوي من القدرات الإنسانية على غرار ما حدث خلال الثورات الصناعية والعلمية السابقة؛ ومقاربة أكثر راديكالية تتوقع أن يعوض الذكاء الاصطناعي البشر بشكل كامل في جميع الأعمال. خصوصا وأن الذكاء الاصطناعي أصبح بإمكانه محاكاة طرق الاستدلال والسلوك البشري باستخدام البرامج المعلوماتية والأجهزة. ويتجلى الاستخدام الملموس لهذه التكنولوجيا في عدد من الأدوات الرقمية الموجهة للعموم، من قبيل مولدات النصوص، ومنصات الترجمة الآلية أو أنظمة التعرف على الصور.

وأبرز التقرير أن المغرب يتوفر على مؤهلات مهمة تخول له التموقع بشكل جيد في مجال الذكاء الاصطناعـي، إذ اعتمــد نصوصا قانونية تؤطر الجوانب الأساسية للتكنولوجيا الرقمية، مــن قبيـل الأمن السيبراني وحماية المستهلكين. في حين أقدمت مؤسسات جامعية على إطلاق عدة مبادرات من قبيل المركز المغربي للذكاء الاصطناعـي التابع لجامعـة محمد السادس متعددة التخصصات التقنيـة، وبرنامـج “الخوارزمي” لتمويـل مشـاريع بحــث فــي مجال الذكاء الاصطناعي، فضلا عــن مبادرات أخــرى أطلقتهــا مــدارس المهندســين وبعــض القطاعــات الحكوميــة.

إلا أنه بالرغم من كل تلك الجهود، يرى التقرير أن المغرب يواجه عدة عقبات حتى الآن، منها غياب إطار تنظيمي خاص بالذكاء الاصطناعي، وبطء وتيرة تحرير المعطيات العمومية. كما تواجه المقاولات الناشئة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي صعوبات في الولوج إلى التمويل، حيث غالبا ما تكون معايير الاستفادة من التمويل غير متناسبة مع احتياجاتهـا الخاصـة. علاوة على الخصاص الواضح فـي الكفاءات والمكونين المؤهلين ما يعيق تطوير أي منظومـة فعالة للذكاء الاصطناعي.

كلفة الأهداف

خلاصة القول، يبدو أن المغرب استطاع تحقيق تقدم مهم في مجال التحول الرقمي، سواء على صعيد بناء استراتيجيات بعيدة المدى، بحيث أنه إزاء تنفيذ استراتيجية ثالثة مستفيدا من التراكم المحقق، كما أنه يطور في تلك الاستراتيجيات من مرحلة إلى أخرى، ما يشير إلى وجود مكاسب نوعية، لكنها لا تخفي وجود نقائص بالطبع.

كما بات المغرب يتوفر على منظومة تشريعية مؤطرة لكل الجوانب الأساسية للتكنولوجيا الرقمية، رغم النقص المشار إليه بشأن الذكاء الاصطناعي، وهي المنظومة التي استدعت إحداث مؤسسات للحكامة والتقنين، تطورت بالتدريج وباتت فاعلا مركزيا في القطاع.

وإذا كان المغرب اليوم قد رفع شعار التحول إلى فاعل رقمي إقليمي، في أفق “السيادة الرقمية” سنة 2030، فإن الوصول إلى هذا الهدف الحيوي والاستراتيجي، لن يكون بدون ثمن، ولعل الهجمات السيبرانية المتكررة من حساب “جبروت” وغيره مجرد الجزء الظاهر منها.