story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

حملة التطهير الإعلامي

ص ص

أتابع، منذ أسابيع، ما يجري في المشهد الإعلامي، كما يتابع الطبيب منحنى حرارة جسم مريض لا يملك ملفه الطبي. في بلد طبيعي، كنا سنعرف اتجاه السياسة العمومية من خلال النصوص القانونية، وقرارات المؤسسات، ومناقشات البرلمان. أما في المغرب، فما زلنا نقرأ النوايا من بين السطور وعبر التسريبات، والتدوينات، وبرامج اللقاءات، والإشارات المتناثرة هنا وهناك.

مع كل ما تراكم أخيرا، صرت أميل إلى أن ما نعيشه اليوم هو بداية لشيء جديد لا أملك أن أجزم بطبيعته، لكننا على الأقل أمام ما يمكن أن أسميه: حملة تطهير إعلامي.

لا أتحدث هنا عن مؤامرة كبرى، بل عن دينامية واضحة: كنس متزامن لوجوه وتجارب كانت عنوان مرحلة فوضى مقصودة، وقمعٍ بالوكالة، وابتذال مهني وأخلاقي. وجوه إما وُظّفت أو صُنعت بسرعة قياسية، وتُسحب اليوم بالسرعة نفسها، عبر آليات تنظيمية داخل مؤسسات إعلامية، وقرارات حزبية ومهنية، و”تفجيرات” أخلاقية وقضائية تبلّغ الرسالة دون حاجة إلى بيان رسمي يقول: انتهت مهمتكم.

جزء من هذه الحملة يُدار بأدوات القضاء. وليس صدفة أن يخرج وزير العدل السابق، مصطفى الرميد، ليصفق علنا لحملة النيابة العامة ضد بعض رموز المحتوى الرقمي، ممن تحوّلوا إلى مصانع يومية للتفاهة، والتشهير، وتسميم النقاش العمومي. بغض النظر عن تقييمنا للملفات القضائية حالة بحالة، فالمهم هو الرسالة السياسية: الدولة قررت أن تتحرك في اتجاه إطفاء الحريق الذي أشعلته، أو في الأدنى “تركته” يشتعل لسنوات في فضاءات التواصل الاجتماعي.

ثم جاءت إشارة أخرى، وهي بالنسبة إلي، حاسمة في قراءة المشهد. وزارة الاتصال تدعونا صبيحة اليوم الأربعاء 17 دجنبر 2025، إلى لقاء استثنائي حول “محاربة الأخبار الزائفة: رؤى ومقاربات متقاطعة”.

العنوان في حد ذاته ليس جديدا، لكن شكل اللقاء وبرنامجه يقولان الكثير: وزير القطاع، محمد مهدي بنسعيد، يفتتح اللقاء إلى جانب رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، لطيفة أخرباش. ثم تجري جلستان، الأولى عن التنظيم والمسؤوليات في مواجهة الأخبار الزائفة، يشارك فيها ممثلو الإعلام العمومي والخاص والقضاء وسفارة فرنسا (مؤشر عن اتجاه بوصلة الاستلهام)… والثانية عن التربية الإعلامية والمواطنة الرقمية، يؤطرها مدير المعهد العالي للإعلام والاتصال، وممثل اليونسكو، وممثلون لقطاع التربية الوطنية، إضافة إلى صحافيين وصنّاع محتوى.

وهذا ليس برنامج نشاط عابر؛ بل بوادر خريطة طريق.

الرسالة الأولى أن تنظيم الإعلام الرقمي الجديد لن يُترك بعد اليوم في “المنطقة الرمادية” بين الصحافة والقضاء، بل يُسحب تدريجيا نحو منظومة تقنين ممأسسة، مرجعيتها ال”هاكا” وتجربتها “الناجحة” في المجال السمعي البصري.

والرسالة الثانية هي الاعتراف، وإن كان متأخرا، بأن المقاربة الزجرية وحدها لا تكفي، وأن التربية الإعلامية جزء من أي سياسة جدية في زمن المنصات.

من حيث المبدأ، أجد في هذا التحول ما يدعو إلى شيء من التفاؤل الحذر. لسنوات، كنا نرى كيف تُترَك الساحة لأصوات تُصطنع وتُموَّل وتُلمَّع فقط لأنها تؤدي وظيفة واحدة: قمع الأصوات المزعجة، وتشويه المزعجين للسلطة، وتطبيع الكذب والتشهير كأدوات قمع سياسي.

أن تعلن الدولة اليوم، بطريقتها الخاصة، أن هذه “المنظومة” استنفدت دورها، وتبدأ في رمي رموزها في “مستودع الخردة”، فهذا في ذاته تصحيح لخطأ كبير.

لكن الوجه الآخر للصورة لا يبعث على الاطمئنان بالكامل. نفس الدولة التي تقول لنا اليوم إنها تريد تنظيف الفضاء الرقمي، هي التي أجهزت على التجربة الجنينية للتنظيم الذاتي للصحافة، وعطّلت المجلس الوطني للصحافة بواسطة لجنة مؤقتة أُقحِمَت فوق المهنة إقحاما. وهي نفسها الدولة التي سمحت بتخريب بيت الصحافة من الداخل، ثم خرجت لتقول لنا: هؤلاء الذين دمّرناهم لا يصلحون لتنظيم الإعلام الجديد، سنسلّمه لهيئات أخرى “أكثر جدية”، هي ال”هاكا”.

هنا يصبح السؤال أعمق: هل نحن أمام استعادة جدية لمسؤولية الدولة في تأطير المجال الإعلامي وفق مرجعيات حقوقية واضحة؟ أم أننا بصدد نقل سلطة المنع والقمع من فوضى “الذباب” ومرتزقة المنصات، إلى آليات تقنين أكثر أناقة، لكنها ليست بالضرورة أقل شراسة حين يتعلق الأمر بالآراء المزعجة؟

الإيجابي في لقاء وزارة الاتصال أنه يعلن، بصوت عال، خيارين في آن واحد:

الأول، أن تنظيم الإعلام الرقمي الجديد – غير الصحافي – يجب أن يستلهم تجربة الهاكا، بما راكمته من قواعد للموازنة بين حرية التعبير وحماية الجمهور من الانزلاقات. هذا أفضل، بلا شك، من ترك الساحة لكائنات مفترسة لا جذور لها في لا تقاليد الصحافة ولا في منظومة حقوق الإنسان.

الثاني، أن محاربة الأخبار الزائفة لا يمكن أن تكون مجرد “حملة اعتقالات”، بل تحتاج إلى عمل هادئ وعميق في المدرسة، والجامعة، والإعلام العمومي، لتكوين مواطن قادر على التمييز بين الخبر والدعاية، وبين الرأي والافتراء.

أقول هذا وأنا أستحضر تجربتي الشخصية في النقاشات التي احتضنتها اليونسكو حول التربية الإعلامية، وكيف كان واضحا، منذ سنوات، أن غياب سياسة عمومية في هذا المجال يعني وجود سياسة عمومية نقيضة: سياسة تفضّل مواطنا ساذجا يسهل تضليله وجرّه نحو الزنزانة، على مواطن نقدي ويدرك حدود الحرية ويصعب التحكم في خياراته.

مع ذلك، يبقى في الحلق غصّة لا يمكن تجاهلها: ماذا سنفعل بالصحافة نفسها؟

إذا كانت الدولة قد اقتنعت بأن الفوضى الرقمية أضرت بالمصلحة العامة، واضطرت تحت ضغط الوقائع ودخولنا زمن سنة انتخابية، إلى إطلاق “حملة تطهير إعلامي”، فمن سيطلق حملة إنعاش للصحافة التي هُشّمت عظامها تحت هذا الركام؟

إذا كانت المنصات التي نصّبت نفسها ناطقة باسم “الشارع” ستُضبط بقانون وبهيئات تقنين، فهل ستُرفع في المقابل اليد عن المهنة، لتستعيد هيئاتها حقها في تنظيم بيتها الداخلي، واختيار ممثليها، ورسم أخلاقياتها بحرية واستقلالية؟

أكتب هذه السطور وأنا واعٍ بكل أسباب الحذر. أعرف أن “حملات التطهير” في تاريخنا السياسي كانت تحمل دائما في طيّاتها بذور الانحراف؛ فتبدأ بتصفية أوضاع شاذة فعلا، ثم تنزلق، ببطء أو بسرعة، إلى تصفية الحساب مع كل صوت مزعج.

لذلك أجد نفسي مضطرا إلى موقف مزدوج: أصفق، من حيث المبدأ، لتوقيف ماكينة التسميم التي عشنا تحتها سنوات؛ وأتمسك، في الوقت نفسه، بحقي وحق زملائي في صحافة مهنية مستقلة، لا تُدار من غرف صناعة التأثير الرقمي ولا من غرف التحكم السياسي.

“حملة التطهير الإعلامي” التي نرى بعض تجلياتها اليوم يمكن أن تتحوّل إلى نقطة انعطاف نحو مشهد أكثر صحة ونظافة، إذا وُضعت تحت سقف دولة الحق والقانون، ورَبطت بوضوح بين الحرية والمسؤولية، وبين التقنين والضمانات.

ويمكن، في المقابل، أن تتحول إلى مجرد جولة جديدة في لعبة قديمة: تغيير أدوات السيطرة، مع الإبقاء على جوهرها كما هو.

الكرة الآن في ملعب من يملكون سلطة القرار: هل يريدون حقا نهاية زمن “القمامة الرقمية” لصالح فضاء عمومي أرقى، تُسمع فيه أصوات النقد بقدر ما تُحمى فيه كرامة الناس؟ أم أن المطلوب فقط تغيير نوع الكمامة التي تُوضع على أفواهنا؟

أما نحن، أبناء هذه المهنة، فلا نملك ترف الانتظار السلبي. واجبنا أن نذكّر، كل يوم، أن تنظيف الفضاء الرقمي خطوة ضرورية، لكنها لن تُجدي كثيرا ما لم تترافق مع خطوة أخرى مكمّلة: إعادة الاعتبار للصحافة نفسها، كفضاء شرعي وحيد، يسمح لهذا المجتمع أن ينظر إلى نفسه في مرآة غير مشروخة.