story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

حكومة الركراكي

ص ص

كثيرا ما تقرن لعبة كرة القدم بالسياسة، من حيث كونها قوة ناعمة يحرص جل الفاعلين. الدولتيين وغير الدولتيين، على التقرب منها واستغلالها، أو توظيفها، لدرجة يقع معها التماسّ مع نظرية المؤامرة حين تتعقد العلاقة بين هذه اللعبة والسياسة، فتنقسم المخلوقات بين مدافع عن حياد وطهرانية اللعبة وقواعدها، وبين مصرّ على ارتهانها الكامل لقواعد اللعب السياسي أكثر من قواعد الفيفا والحكام وغرفة الفار…
كيف لا والفيلسوف الراحل محمد سبيلا أدرج القاموس الرياضي ضمن القواميس التي تستلهم منها لغة السياسة، فيُقال إن الكرة في ملعب هذا الطرف السياسي أو الآخر، وأن أحدهما وجه ضربة قاضية لغريمه، وأن السياسيين ينتظمون في شكل “فرق” داخل البرلمان… لكن ماذا لو كانت الكرة هي السياسة؟
تبادر هذا السؤال إلى ذهني مساء أول أمس، الثلاثاء 20 فبراير 2024، وأنا أتابع من خلف الكاميرا الحوار الشيق الذي أداره باقتدار كبير الزميل عبد الرحيم العلام، مع المدرب المغربي، الذي يتولى إدارة المنتخب الأردني حاليا، طيب الذكر والحضور الحسين عموتة.
وأنا المأخوذ بقوانين السياسة وحساباتها ولعناتها في النظر إلى كل ما يجري من حولي تقريبا، وجدتني مأخوذا ومعجبا بالجزء “النقي” من لعبة كرة القدم، وهي فعلا رياضة تقوم على المنافسة الشريفة وتحدي الذات بتطوير ايجابياتها وقمع انحرافاتها، عندما يتركها “شياطين” السياسة وشأنها، حتى أن جل ما حلمت وتحلم به البشرية من مثل وقيم ومبادئ يرجي منها تحقيق العدالة والمساواة والانصاف، تكاد تتحقق مع هذه اللعبة، وأن كان ذلك استثناء.
في لحظة من لحظات تسجيل ذلك الحوار، بدا لي الحسين عموتة كأنه رئيس لحكومة الظل، دون أية انتهازية أو وصولية أو سعي للإيقاع ب”رئيس الحكومة” الحالي وليد الركراكي، يبدو عموتة بملامحه ونظرته الصارمتين، كأي زعيم للمحافظين أو العمال (السياق البريطاني لمفهوم حكومة الظل)، يشتغل بكل تفان كما لو أنه رئيس الحكومة الفعلي، وفي حال فشلت الحكومة الرسمية يكون بديلا جاهزا وواضحا ومفصلا، قد تعرف عليه جمهور الناخبين وتداولوا معه، فيتولى القيادة.
ليس القصد هنا “تعيين” عموتة بدلا من الركراكي “بلا خبار” الجامعة، وأنا شخصيا ممن دافعوا عن استمرار وليد الركراكي على رأس المنتخب الوطني، وثقافتي الكروية المتواضعة جدا لم تسعفني في الاقتناع بضرورة التخلي عنه لمجرد أنه خسر مباراة، رغم أنني أحلم مع الحالمين بكأس إفريقية ولم لا كأس للعالم.
بل المقصود هو الذهاب أبعد ما يمكن في هذا الانزياح بالسياسة إلى عالم الكرة، ولو من باب الخيال والتمني، لأننا بالفعل نجد في عالم هذه الساحرة المستديرة ما يكاد يكون بيضة ديك في السياسة
أول ما يحضر في عالم الكرة وتفتقده السياسة، هو عنصر الاحتكام للكفاءة. لا يمكنك أن تلاحظ مسار شخص مثل وليد الركراكي أو الحسين عموتة، دون أن تلاحظ هذا الدور الحاسم الذي تلعبه الكفاءة في تحقيق الصعود وتولي المسؤوليات. الركراكي تسلم مقاليد المنتخب الوطني محمولا فوق موجة من الإنجازات، خاصة مع فريق الوداد البيضاوي. والحسين عموتة بات مصدر فخر واعتزاز بعدما أوصل المنتخب الأردني إلى نهائي كأس آسيا، وحين سألناه إن كان يراوده طموح تدريب المنتخب الوطني يوما ما، لم ينافق أو يخفي هذه الرغبة. والمبرر الوحيد لوجود المدربين معا في دائرة الأضواء، هو كفاءتهما وإنجازاتهما.
هل أنغص عليكم المشهد بمقارنتهما بشخصياتنا السياسية؟ لا داعي. دعونا نواصل.
ثاني عنصر هام توفره الكرة وتفتقده السياسة، هو ربط المسؤولية بالمحاسبة. منذ عصور الفلاسفة الرومانيين واليونانيين ومفكري عصر النهضة وما قبل وما بعد الحربين العالميتين، والبشرية تبحث عن ضبط علاقة الحكام بالمحكومين بتعاقدات واضحة تترتب عليها نتائج بالاستمرار في المسؤوليات أو الرحيل عنها. هذا بالفعل ما يحدث في الكرة، من نجح يكسب المناصب والأموال، ومن فشل يخرج ويختفي من المشهد.
ثالث عنصر هو هذا الانخراط وهذه المشاركة الواسعة ل”شعب” الكرة. لو كانت السياسة تحظى بعُشر ما تتمتع به الكرة من انخراط وتفاعل، لكانت أحوال الناس غير ما هي عليه اليوم.
“المواطن” في دولة الكرة لا يعتبر نفسه أقل شأنا من غيره، ولا يقول مالي أنا و”حريق الراس”، “دعهم فهم يعرفون ماذا يفعلون”، بل يراقب ويشجع ويحتج ويقف ندا للند مع اللاعب والمدرب ورئيس النادي والاتحاد الكروي، ويثور ضد الحكم و”يتقابح” مع غرفة الفار ومحكمة الطاس… المهم أنه لا ينسحب ولا ينهزم، بل “يناضل” حتى ينال مطالبه ويحقق طموحاته، أو ينزل عقابه بمن فشلوا في تحقيقها له.
هل نقارن مع مواطنينا في السياسة؟ لا لا داعي.
سوف لن أغرق كثيرا في المقارنة وفي جعل الأندية الكروية في مقابل الأحزاب السياسية، والدوريات والكؤوس في هيئة الانتخابات، وفصائل المشجعين في موازاة التيارات داخل الأحزاب، ولا بوضع شعارات وأساطير الأندية في ميزان الأيديولوجيات والمرجعيات الفكرية التي تؤطر السياسة…
لكن هذا العالم الموازي الذي باتت تشكله لعبة كرة القدم، تماما كما هو الحال مع العالم الموازي الآخر الذي صنعته لنا الانترنت والشبكات الاجتماعية، لا يمكن أن يكون بديلا عن عالمنا الحقيقي.
نتمنى كامل التوفيق والنجاح لوليد الركراكي وأشباله، كما نتمنى أن تأتي الفرصة التي يحلم بها الحسين عموتة، ومع هذا وذاك، نحن أمام جانب من جوانب العبقرية المغربية التي نفتخر ونعتز بها، لكننا نفتقدها كثيرا في عالم السياسة.. نفتقد لمنطق الكفاءة، ولربط المسؤولية بالمحاسبة، وللمنافسة الشريفة وفقا لقوانين واضحة، ولحكومات الظل والبدائل الصريحة والواضحة، ونفتقد بالخصوص، لأشخاص مثل الركراكي وعموتة، في إخلاصهما لنفسيهما ولمهامهما.