حكومة الباطرونا
![حكومة الباطرونا](https://thevoice.ma/wp-content/uploads/2024/06/مصطفى-ابن-الرضي-e1718443586205-768x540.jpeg)
تكاد تشعر أن هذه النقابات علينا، هي والحكومة، على صعيدٍ واحد، في استهداف حقّ الناس في أن تحتج.
لا أملك إلا أن أحيي كل حركة رفضٍ وإضراب وتحرّك مدني أو سياسي في بلد يوجد فيه من يحلم بتحويلنا إلى زبناء لا حقّ لهم إلا في الاستهلاك الدفع، والصمت.
لست في وارد أن أطلق النار على سيارة الإسعاف، وأن أُبخِّس إضراب عشرات آلاف الموظفين رفضاً للقانون. نبحث عن نبضِ حياة في المجتمع، فلا يستقيم أن نحمل المِشْرطَ لقطع الشريان.
لكن، أحتاج إلى أن أفهم كيف استطاعت أن تبقى هذه النقابات كل هذه المدة في كهف الصمت والجمود، ثم فجأة انبعثت لتعلن الإضراب العام، وقد بدأت مناقشة القانون التنظيمي للإضراب في البرلمان في يونيو 2024 ولم تتحرك، ثم اعتمده مجلس النواب في 24 دجنبر 2024 ولم تصرخ (على الأقل بالقدر الذي نسمعه)، وبقي يتجوّل في مجلس المستشارين حوالي شهر ونصف قبل أن التصويت عليه في 3 فبراير. ثم فجأة تعلن الإضراب العام (نعم الإضراب العام) في نفس اليوم المخصّص للتصويت النهائي على القانون، علما أن مشروع القانون التنظيمي الخاص بممارسة حق الإضراب كان نقطة ضمن الاتفاق الاجتماعي لـ25 أبريل 2019 بين الحكومة والنقابات وأرباب العمل.
أخذاً بكل ظروف التخفيف، سنقول إنها نقابات أهل الكهف (تَحْسَبُهم أَيْقاظا وهم رُقود). فقدت ( وأُفقدت) كل أدوات تأثيرها، ولم يعد لها أنياب، ولا يُقام لها اعتبار في حوار اجتماعي أو غيره، والذي تحوّل إلى لقاءات عناقٍ وجلسات تصوير.
أما إذا شئنا التدقيق، وأعددْنا صكّ اتهام يليق بهذه النكسة، فقطعا سننتهي إلا أننا تحوّلنا إلى وجود نقابات (ولا أعمّم) تقف إلى يمين الباطرونا والحكومة ضد الشغيلة. بل إن نقابات في بلدنا يرأسها باطرونا، وهذا من المُضحكات المُبكيات، كما يُقال.
وأنْ تصمت النقابات دهراً، وأن تراقب مشروع القانون ينتقل من غرفة تشريع إلى آخرى، وتنتظر المصادقة عليه بالقراءة الأولى، ثم مصادقة مجلس المستشارين، لتتحرّك بالإضراب العام، فهذا يعني تواطوءاً لتمريره، أو أن من كان يجب أن يحتج في الوقت المناسب كان في غيبوبة استحال معها أن يتخذ القرار.
أما مجلس النواب، فزاد في الإهانة حرفاً، إذ صادق الأربعاء 05 فبراير، أي يوم الإضراب العام، بالقراءة الثانية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب.
هذه إهانة للنقابات، وإهانة لمن تمثل هذه النقابات، وإهانة للبرلمان نفسه، الذي لم يشعر أنه معنيٌ حتى بعدم مُزامنة مصادقته على مشروع القانون مع يوم الإضراب.
بل إن هذا البرلمان لم يُشعِر الناس أنه بصدد المصادقة على مشروع قانون مهم، إذ حظي بموافقة 84 نائبًا، ومعارضة 20 آخرين، من بين 395 عضوا. هذا يعني أن نحو 74% من النواب تغيّبوا عن الجلسة التشريعية للمصادقة على مشروع القانون 97.15 (انسحب 7 أعضاء). وهذا أيضا يعني أحد أمرين: أن النواب، مثلما يُنكِّثُ ساخرون، كانوا مشاركين في الإضراب العام الذي دعت له النقابات، إلى حدّ احتجابهم عن جلسة البرلمان. أما الاحتمال الثاني فهو أنهم يستخفّون بأهمية القانون وضرورة حضورهم، ليمرّ “قانونَ أقليّةٍ”.
وفي المضمون، وعندما تقرأ القانون، ستفهم سريعاً أن ممارستكَ لحقّ دستوري قد يؤدي بك إلى الإفلاس، وأنه كُتِب ليحمي المشغّلين لا الأجراء. وأنه قانون ضد “الإضراب”، لا قانون للإضراب.
القانون 97.15، الذي يفترض أنه تنظيمي لكيفية ممارسة هذا الحقّ الدستور، تحوّل في زمن حكومة الباطرونا إلى طريق سيّار إلى الإفلاس. لقد صار العامل البسيط والموظف مستهدفاً بالغرامات الثقيلة. وبدل أن يخرج ليبحث عن لقمة عيش في زمن غلاء المعيشة بفعل سياسات اقتصادية متوحّشة، يمكن أن يجد نفسه خلال ممارسته لحق الإضراب في وضعية تفرض عليه أداء 100 ألف درهم.
واحمد الله يا مواطن، فقد سعت الحكومة في مشروع القانون إلى تمرير عقوبات جزائية تؤدي بكَ (نيشان) إلى السجن. وإذا ظهر السبب، وشمَمْت رائحة رأس المال، بَطُلَ عجبك.
وإذا كان نص دستور 2011 في الفصل 29 نصّ على أن “حق الإضراب مضمون”، فإن هذا الحقّ تمت سرقته عند تفعيل ما ورد في منطوق الدستور الذي يضيف: “يحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.
لقد فكّرت حكومة الباطرونا، وأغلبية حكومة الباطرونا في البرلمان، في تحويل الحق الدستوري إلى “جريمة”.
وإن نوايا الحكومة يفضحها الإطار التشريعي في نسخه الأولى لما يُفترض أنه تنظيم لحقّ الناس في الإضراب، حيث جرى إثقاله بالبعد الزجري “مما رجّح مقاربة تقييدية للحق، خلقت انطباعا غير إيجابي تجاه المبادرة التشريعية برمتها”، وفق ما لاحظ مثلا الرأي الاستشاري للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي في 2024.
لقد تمّ تعديل كثير من بنود مشروع القانون، وحتى بصيغته النهائية، وبعد حذف العقوبات السالبة للحرية، لا يزال يكرّس لحالة عدم التوازن بين العمال والأجراء والموظفين من جهة، وبين المُشغّلين، خاصين أو عموميين، من جهة ثانية.
إن القانون كما صادق عليه البرلمان، بالتزامن مع يوم الإضراب العام يؤكد الاختلال، ويثبت تلاشياً مستمراً لكل مقومات صمود المجتمع في مواجهة تغوّل رأس المال، وأيضا نزوعَ تحكّمٍ تسكن عقل السلطة.
الإضراب حقّ للأجراء والموظفين لتصويبٍ مستمرٍ ودينامي لعلاقة لم تكن في أي يوم من الأيام متكافئة، وكانت تميل كفّتها للمشغّلين. وحين فكّر من فكّروا في وضع قانون للشغل، وقانون للإضراب، كان في بالهم حماية الفئة الأكثر ضعفاً في العلاقة التشغيلية، في مواجهة الفئة التي تملك كل أسباب القوة للإخضاع، وخاصة السلطة الاقتصادية. قبل أن تتحوّل القوانين إلى سيفٍ آخر يحمله الباطرونا لتكبيل حقّ دستوري.
وأن تتم المصادقة على مشروع القانون الخاص بالإضراب في يوم الإضراب العام، فقد حمَل رسالة استخفاف لا تخطئها العين، وتبليغاً للمجتمع أن احتجاجه ورأيه لا يهمّ كثيرا.
إن المصادقة على قانون الإضراب، وبالشكل الذي تمت به، لا تنفصل عن تغوّل رأس المال على السياسة وفي الإعلام، وعلى مساحات فعلِ المجتمع، وعلى المؤسسات، حتى صارت القوانين تُصاغ على هوى المتنفّذين في هذه اللحظة السياسية.
قصارى القول
إن سلامةَ المجتمع في ضمان التوازن داخله. ومن يعتقد أنه نجح اليومَ في تحويل النقابات إلى مجرد “زوائد” ومقّرات باردة وشعارات مبحوحة لا تكاد تُسمع حتى في الشارع المجاور، إنما يمهّد الطريق لتهديد السلم الاجتماعي. ومن يفخر أنه سوّى الجميعَ بالأرض، و”أعاد التربية” للمجتمع، وأنه بلدوزر في السياسة والأعمال والإعلام، وما تحت الأرض وفوقها، وفي سماء البلد وبحره، كمن يسمّن العِجل الذي سينطحنا جميعا.
تدبير شؤون الناس لا يسير بالمغالبة، بل بالمفاوضة والتوافق، وبقدرٍ كبير من المسؤولية، التي تستشعر أنه لا يجب إشاعة أجواء الاستخفاف بأصوات الناس.
لقد أرهقت التنسيقيات في كثير من القطاعات الدولة خلال العقد الأخير. كانت “بديلا” للنقابات، حين تملّكت فئاتٍ المبادرة لإعادة إنتاج الفعل الاحتجاجي بعيدا عن الأطر الكلاسيكية. وغداً، لا أحد يعرف ما يمكن أن تنتج الديناميات المسموعة والمكتومة في المجتمع، وقد لا تتمكن الدولة من امتلاك القدرة على احتوائها. والدولة، في الحالة المغربية، ليست حكومة أو باطرون بصفة رئيس حكومة. الدولة في المغرب أرسخُ وأعقد، ويجب أن تلتفت إلى أن نزعَ أسباب مقاومة المجتمع خطرٌ محدق.