إخلاص لعلج: حكاية حارتنا
هذه حكاية حارتنا، لم أشهد من واقعها إلا طوره الأخير الذي عاصرته، ولكني سجلتها جميعا، كما يرويها الرواة وما أكثرهم. ولا سند لي فيما كتبت سوى ما عايشت وهذه المصادر. وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات.
كلما ضاق أحد بحاله، أو ناء بظلم أو سوء معاملة، أشار إلى البيت الكبير على رأس الحارة، وقال: “هذا بيت جدنا، جميعنا من صلبه، ونحن مستحقو أوقافه، فلماذا نجوع وكيف نضام؟”.
كان الأمر يتوقف عند التساؤل، وقد يتعداه بشيء من الأسى والحسرة والاستياء، فقط، لا أكثر. لأن الكل يعلم، أن الرد لأي فعل، أو تعسف، أو جور، لن يعقبه سوى الأذى، والنبذ، والطرد من الحارة، وما عدا الجد الأكبر ومساعديه، كان سكان الحارة جلهم قُصَّرا، يمضون فيها بعض السنين فحسب، وما إن ينالوا النضج الكافي أو يوشكوا، حتى يحلقون بأجنحتهم بعيدا، تاركين ورائهم، الحارة، والجد ومساعديه.
لا أحد ممن غادروا المكان عاد يوما إليه، وفي هذا الأمر ما فيه من معان وعبر، ولو استوقفت أحدا من الذين عبروا، وسألته عن الحارة، لقال: حسبنا في صبانا أن حيطانها لنا مأوى، وأن جدنا عادل، ومساعديه حكماء. لكن، خاب الحسبان، وخاب الظن.
كان العادل أرعنا، والحكيم ضالا.. أما نحن، فكنا قصرا، نحتاج العظة، والإرشاد… فبئس ما نلنا وبئس ما ناولونا إياه. كان الجد، صاحب المكان، ووليه، ولما بدأ سمعه يقل، وبصره يضعف، وصحته تتراجع، صار يختار من مستخدميه من يكون منهم مساعدا له، في تسيير الشؤون وتدبيرها.
شهدت مرة على تنصيب أحدهم، كنت أظن في بادئ الأمر أنه اختير لخبرته، وفطنته، لكن، سرعان ما اتضح أن المعايير المعتمدة، كانت تبعد عن ظنوني كل البعد. فما جعل من المستخدم مساعدا، هو سرعته في الوشاية، وتسهيله التذنيب، وصوته الذي يعلو بسرعة، ودون سبب.
هكذا أداة اختيرت دون شك، لزرع الرعب لأن منطق الجد يقول: كلما ساد الرعب، انضبطت القواعد. وهو منطق قد يكون متفهَما، من جد هرم، خانه السمع والبصر وغالبا البصيرة. لكن ما يعجب له العقل، هو كيف لأحد أن يرضى لنفسه أن يكون طبلا، لا يعلو صوته سوى لكونه أجوفا.
كان جميع السكان ينتظرون موعدا واحدا لا غير، وهو يوم بلوغهم السن القانوني للرحيل من الحارة. فلم يعد يود أحد التصدي لا للجد ولا لطبله المنفوخ. فالجد مهما كان يظل جدا وصاحب الحارة ووليها، وكبر سنه وحده كفيل بأن يلزم على الغير وقاره، أما الطبل فغير القرع، لم نر له يوما مصيرا. والأداة صنعت في الأصل لتستخدم، لا لتناقش. لتستعمل لا لتحاور. وفي هذا الأمر أيضا ما فيه من معان وعبر.
لعل ما ينقص الحارة، ليس العبر البتة، بل ما ينقصها هو أعمق من هذا. قد ينقصها زعزعة تبيد فكر الاستبداد السائد، وتعيد القوى لموازينها. لأنه وإن أينعت رؤوس، فقطافها ليس بعد بالحكيم.
خمسة وستون عاما مضت، على تاريخ نشر نجيب محفوظ لروايته «أولاد حارتنا»، والتي أخد أول شطر للمقال من افتتاحيتها.
والحارة.. الحارة، لا شيء فيها تغير، وحكاياتها نفسها لا تتجدد.. في الفاتح من شتنبر، سنة اثنان وعشرون وألفين، عثر على طبيب منتحر شنقا، في غرفته، وقد ناله ما ناله من حارته حسب ما رواه الرواة، وهم أصدق. والحارات بالجملة، وما أكثر المناسبات التي تدعو إلى ترديد الحكايات. لكن، أما في الأفق مصباح؟