حكاية القمصان.. العدالة في امتحان الرموز والحرية
أثارت متابعة شابين في المغرب بسبب التقاطهما صورا وهما يرتديان قمصانا تحمل عبارتي “الحرية لفلسطين” و“الصحة والتعليم للجميع”، في سياق احتجاجات اجتماعية، إشكالا قانونيا وحقوقيا بالغ الأهمية، يتمثل في مدى إمكانية تكييف هذا الفعل البسيط كتجسيد لجريمة “التحريض على ارتكاب جنحة أو جناية” المنصوص عليها في الفصل 299-1 من مجموعة القانون الجنائي المغربي.
إن هذا الفصل، الذي أدرج في منظومة التشريع الجنائي لحماية النظام العام من الدعوات العنيفة أو المحرضة على الجريمة، لا يمكن أن يستعمل لتجريم تعبيرات رمزية أو شعارات ذات مضمون حقوقي أو تضامني، لأن ذلك يفرغه من هدفه الأصلي ويحوله إلى أداة لتقييد حرية الرأي.
ينص الفصل 299-1 على معاقبة كل من يقوم، بوسيلة علنية أو إلكترونية، بـ“تحريض مباشر” على ارتكاب جناية أو جنحة، سواء تم تنفيذها أو لم تنفذ. وهذا النص واضح في أنه يشترط عنصرا ماديا يتمثل في وجود فعل تحريضي موجه نحو الغير، أي دعوة صريحة ومباشرة إلى ارتكاب سلوك مجرم، وعنصرا معنويا يتمثل في القصد الجنائي، أي نية الفاعل في دفع الآخرين إلى تنفيذ الجريمة. دون توافر هذين الركنين، لا يمكن الحديث عن قيام جريمة التحريض.
وعند إسقاط هذه القاعدة على واقعة الشابين، فإن ارتداءهما قميصين يتضمنان عبارتين سلميتين لا يعبران سوى عن موقف اجتماعي وإنساني مشروع، لا يمكن أن يعتبر فعلا تحريضيا. فعبارة “الحرية لفلسطين” ليست دعوة إلى ارتكاب جريمة، بل تعبير عن تضامن مع قضية سياسية وإنسانية تحظى باعتراف دولي واسع، وهي من صميم حرية الرأي التي يكفلها الدستور المغربي في فصله الخامس والعشرين.
أما عبارة “الصحة والتعليم للجميع” فهي مطالبة بحقوق اقتصادية واجتماعية أساسية نصت عليها المواثيق الدولية، ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي صادق عليه المغرب سنة 1979، والذي يلزم الدول الأطراف بالعمل على ضمان الحق في التعليم والصحة دون تمييز. فكيف يمكن اعتبار شعار يطالب بحقوق مكفولة قانونا وتحميها الاتفاقيات الدولية فعلا مجرما أو وسيلة للتحريض على ارتكاب جريمة؟
إن الركن الجوهري في التحريض، وفق الفقه الجنائي والاجتهاد القضائي المقارن، هو الدعوة المباشرة إلى خرق القانون. أما التعبير عن موقف أو فكرة أو مطلب فهو من صميم الحريات الأساسية. فالقانون لا يعاقب على النوايا ولا على المواقف، بل على الأفعال التي تمس بالأمن العام أو النظام العام بوضوح. وحتى في الحالات التي يكون فيها الخطاب حادا أو نقديا، فإن المواثيق الدولية تميز بين “التحريض على العنف أو الكراهية” وبين “التعبير السياسي أو الاجتماعي”، وتلزم الدول بعدم خلط المجالين.
وتنص المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن لكل إنسان الحق في حرية التعبير، بما في ذلك حرية التماس المعلومات والأفكار ونقلها بأي وسيلة، ولا يجوز تقييد هذا الحق إلا بما يكون منصوصا عليه قانونا وضروريا لحماية النظام العام أو حقوق الآخرين. أما المادة 20 من العهد نفسه، فتحدد بدقة الحالات التي يمنع فيها التعبير، وهي الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضا على التمييز أو العنف. والحال أن العبارتين موضوع القضية لا تتضمنان أي عنصر من هذه العناصر.
إن تطبيق الفصل 299-1 على واقعة لا تتضمن تحريضا مباشرا على العنف أو الجريمة يعد تأويلا موسعا وغير مبرر للنص الجنائي، ويتعارض مع مبدأ الشرعية الذي يعد من ركائز العدالة الجنائية، ومؤداه أنه “لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص صريح وواضح”. كما أنه يمس بمبدأ التناسب الذي يقتضي أن تكون القيود المفروضة على الحرية ضرورية في مجتمع ديمقراطي لتحقيق غرض مشروع.
فليس في ارتداء القميصين ما يمس النظام العام، ولا ما يحرض على مخالفته، بل هو فعل سلمي ينتمي إلى المجال المحمي دستوريا. من زاوية حقوقية، تمثل هذه المتابعة مثالا على التحديات التي تواجه حرية التعبير في ظل توسع بعض منفذي القانون في استعمال النصوص الزجرية.
فالتعبير الرمزي، مهما كان حادا أو جريئا، لا يجب أن يقابل بالمتابعة الجنائية إلا إذا انقلب إلى دعوة للعنف أو للتمييز. إن المجتمع الديمقراطي، كما أكدت لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، يقوم على حرية تداول الأفكار والرموز، بما فيها الآراء التي “تصدم أو تزعج أو تقلق الدولة أو أي فئة من المجتمع”، لأن ذلك جزء من التعدد المشروع في مجتمع مفتوح.
وبذلك، فإن ارتداء قميص يحمل عبارة “الحرية لفلسطين” أو “الصحة والتعليم للجميع” لا يمكن اعتباره فعلا مجرما ولا وسيلة للتحريض على الجريمة، لأنه لا يتضمن خطابا يحرض على الكراهية أو العنف، ولا يدفع الغير إلى ارتكاب أي مخالفة قانونية. بل على العكس، هو ممارسة مشروعة لحرية التعبير التي تكفلها الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية، وتشكل أساسا لأي مجتمع يحترم كرامة الإنسان وحقه في التعبير عن ذاته ومواقفه.
إن احترام روح الفصل 299-1 يقتضي أن يفهم في سياقه الأصلي: الردع الصريح للتحريض على الجريمة، لا التضييق على التعبير عن القيم الإنسانية أو الاجتماعية. وحين يستعمل القانون لتجريم الرأي، يفقد العدالة معناها، ويختزل النص في سلطة زجرية لا في ضمانة للحرية.
لذلك، فإن أي تأويل يجرم فعل الشابين بناء على هذا الفصل يعد مساسا بمبدأ المشروعية ومخالفة للالتزامات الدولية للمغرب في مجال حقوق الإنسان، ويقوض ما كرسه الدستور من توازن دقيق بين حفظ الأمن وصون الحرية. فالقانون، في نهاية المطاف، وجد ليحمي الحق لا ليقمعه، وليحصن التعبير لا ليجرمه.
إن مثل هذه المتابعات، التي تجرم التعبير السلمي تحت غطاء التحريض، تعمق فجوة الثقة بين الشباب والمؤسسات، وتشعرهم بأن آراءهم وأحلامهم قابلة للتجريم بدل أن تكون موضوع حوار. فهي لا تساهم في ترسيخ دولة القانون، بل تزرع الخوف وتدفع الأجيال الصاعدة إلى العزوف عن المشاركة العامة، وتغذي شعورا بالغبن واللامبالاة تجاه المؤسسات.
وعندما تقابل حرية الرأي بالقمع، فإن مسار الديمقراطية يتراجع، وتضعف قيم المواطنة، ويتأخر مشروع بناء دولة الحقوق والحريات الذي يفترض أن يكون الخيار الاستراتيجي للمغرب.
إن صون حرية التعبير ليس ترفا سياسيا، بل هو شرط أساسي لبقاء الثقة بين الدولة والمجتمع، ولضمان أن تكون العدالة أداة للإنصاف لا فضاء لتكميم الأصوات والأحلام.