حقنا في محكمة الفيلة!
أصدرت محكمة العدل الأوربية الجمعة الماضي قرارا يفيد إلغاء اتفاقية تجارية تسمح بتصدير المنتجات الفلاحية لأرض الصحراء المغربية نحو دول الاتحاد الأوربي، وذلك بعد 12 شهرا من الآن.
وأطلقت الخطوة موجة دعاية مضللة من جانب جبهة البوليساريو، والتي قدّمت القرار كما لو كان إعلانا لقيام دولتها المزعومة ونهاية الوجود المغربي في الصحراء.
كما أطلقت منصات البروباغندا الانفصالية العنان لخيالاتها بتحميل قرار المحكمة ما لا يحتمله من أحلامها وأمانيها، من قبيل القول بكونه يمنع إدراج الإقليم ضمن أية اتفاقيات تجارية مع الاتحاد الأوربي…
كما أدى القرار، المثير للغضب والقلق عند كل مغربي بمؤمن بقضية وحدة بلاده الترابية، إلى إطلاق موجة مضادة من الهجوم على المحكمة ونعت قرارها بنعوت تتجاوز ما يحتمله، كأي حكم قضائي، من تعليق ونقد ومناقشة.
أول ما ينبغي تسجيله واستيعابه قبل المرور إلى أية خطوة موالية، هو أننا أمام قرار متعلّق بطعن مقدّم ضد حكم آخر للمحكمة الأوربية، صدر عام 2021، وقضى بإلغاء اتفاقيتي الصيد البحري والفلاحة الموقعتين بين المغرب والاتحاد الأوربي، بناء على دعوى رفعتها جبهة البوليساريو.
وبما أن اتفاقية الصيد البحري قد استنفدت مدة العمل بها السنة الماضية، فإن محكمة العدل الدولية نظرت فقط في الشق المتعلق باتفاقية تصدير المنتجات الفلاحة، ورفضت الطعون المقدمة أمامها.
هذه الطعون مقدمة من طرف المفوضية الأوربية، أي الجهاز التنفيذي للاتحاد الأوربي، والذي يمثل حكومات الدول الأوربية ال27 المنتمية للاتحاد. أي أننا أمام موقف سياسي أوربي مدافع عن الاتفاقية، وبالتالي في مصلحة المغرب، في مقابل قرار قانوني وقضائي مخالف.
الطعون التي قدمتها المفوضية الأوربية ضد حكم المحكمة الأوربية الصادر في 2021، وعددها خمسة، تتعلّق أساسا بمدى تمتّع جبهة البوليساريو بالصفة القانونية التي تخوّلها حق التقاضي أمام قضاء إقليمي مثل المحاكم الأوربية.
يعني ذلك أن الدول الأوربية مجتمعة، في شخص المفوضية، لا تعترف بالجبهة الانفصالية ولا تمنحها حتى حق التقاضي باسم الصحراويين. كما يتعلّق أحد الطعون المقدمة بالمجادلة في قول المحكمة الأوربية إن الاتفاق الموقع لم يحصل على موافقة “شعب الصحراء”، وهنا نأتي إلى مضمون القرار الجديد الذي أصدرته محكمة العدل الأوربية.
هذه الأخيرة رفضت الطعون كلها، وبالتالي لم تترك أي مجال لإلغاء حكم المحكمة الأوربية، وهذا مدعاة للغضب والانفعال دون أدنى شك. لكن القرار يستحق بعض التأمل والقراءة الهادئة أيضا، حتى وهو ينتهي إلى خلاصات لا تطابق رأينا ولا تخدم مصلحتنا.
ناقشت المحكمة في النص الكامل لقرارها، كل طعن من الطعون الخمسة، وخلصت إلى أن لجبهة البوليساريو الحق في رفع الدعوى. واعتبرت المحكمة، وهنا ربما يجد القانونيون المختصون منفذ التعليق على القرار وكشف ضعف حيثياته، أن البوليساريو ليست ملزمة بالتوفر على صفة الشخصية المعنوية في نظر القوانين الأوربية حتى تمارس حق التقاضي، واستدلت بعنصر سياسي يتمثل في مشاركة الجبهة في المسار الذي تشرفه عليه الأمم المتحدة لحل النزاع. أي أن المحكمة لم تقتصر على الحجة القانونية بل توسّعت في تعليلها نحو الأبعاد السياسية للملف.
بالمقابل، لم تمنح المحكمة في أية فقرة من النص الكامل لقرارها، جبهة البوليساريو الانفصالية صفة ممثل الصحراويين، سواء كممثل وحيد أو كأحد الممثلين، واكتفت باعتبارها طرفا منتميا إلى الفئة السكانية المفروض الحصول على موافقتها الضمنية، بما أن الإقليم ما زال يعتبر رسميا غير مقرر المصير وفقا لمنظمة الأمم المتحدة.
بل إن المحكمة تحاشت الدخول في هذا النقاش، ولو كان لديها ما يسمح بمنح البوليساريو هذه الصفة، بما أن هذه الأخيرة كانت طرفا في الدعوى وقدمت مرافعاتها، لقضت به، وهو ما لم يحصل.
أسوأ وأخطر ما في هذا القرار، هو ذلك الاجتهاد الذي أقدمت عليه المحكمة بخصوص “شعب الصحراء”، حيث استبعدت المؤسسات والهيئات المهنية المحلية، واعتبرت أنها لا تمثله، وذهبت إلى أن جزءا من هذا “الشعب” يوجد في مخيمات تندوف الجزائرية، وبالتالي لا تعبّر عنه تلك الهيئات. وميّزت المحكمة في قراءة خطيرة سياسيا، بين تسميه “الشعب الصحراوي” و”ساكنة الصحراء”، معتبرة أن هذه الأخيرة تمثل أغلبية المقيمين حاليا في الإقليم، وأن “الشعب الصحراوي” هو الذي يحوز تقرير المصير في الإقليم…
العارفون المشتغلون بالمادة القانونية الدولية، يدركون أهمية قرارات محكمة العدل الأوربية، وما تمثله في أدبيات ونصوص القانون الدولي من مرجعية. ومن شبه المستحيل أن تجد باحثا أو أكاديميا مغربيا رصينا واحدا، لا يحيل في كتاباته وأبحاثه ومرافعاته على قرارات هذه المحكمة، باعتبار اجتهاداتها ذات قيمة واعتبار.
يجعلنا كل هذا أمام سؤال كبير وخطير، يفترض فينا كأمة تدبّر معركة وجودية ضد خصومها من أجل إفشال مشروع تقسيمها، أن ننكب على مناقشته والتخطيط ما يمكن أن ينتج على مثل هذا القرار: هل سيرفع المنتظم الدولي في وجهنا ورقة “الشعب الصحراوي” إذا كُتب لمخطط الحكم الذاتي أن يطبّق كحلّ نهائي للنزاع؟ وهل لدينا ما يكفي من أوراق للضغط والتفاوض لحمل الأمم المتحدة على تجاوز هذا التفسير الذي يؤسس لفصل عنصري بين سكان الصحراء؟
والسؤال الأكبر والأكثر تعقيدا: إلى متى سيستمر رهاننا على القوى الدولية لحسم ملف وحدتنا الترابية؟ هل سنبقي مصيرنا بين أيدي منظمات ومحاكم وهيئات لا يهمّها في ملفاتنا سوى ما تجنيه هي من مصالح ونفوذ؟ ألا نضيع حقوقنا ونحرم أنفسنا من الحسم في مصيرنا عندما نجهض مشاريعنا الديمقراطية التي يمكنها وحدها أن تصهرنا في بوثقة واحدة لا فرق فيها بين صحراوي وسوسي وجبلي…؟ ألا نترك الحلّ يفلت من أيدينا عندما نقتل كل ما يحمل على الثقة في السياسة والانتخابات والمؤسسات، لنبحث عنه بعيدا بين أقدام الفيلة وداخل محاكمهم؟