حروب إسرائيل وحسابات إيران
حصل ما كان يتخوّف منه كثيرون، وقد صارت فرص الحرب الشاملة أكبر في الشرق الأوسط. لم تغادر إسرائيل منطقة عقْلية القبيلة في الثأر بعد عام على طوفان الأقصى، ولا يمرّ يوم دون أن ترتكب مجزرة أو تهدم أساسيات في القانون الدولي. الآن، انتقلت إلى التالي، أي الحرب على حزب الله في لبنان. وفي هذه المقالة أسوق نقاطا أراها ضرورية للفهم:
1 ـ حزب الله استنزف إسرائيل منذ 8 أكتوبر حين فتح ما أسماها جبهة الإسناد. والحزب، الذي ما عاد يحفظ له كثيرون وُدّاً وقد تورّط في الدم السوري دعماً للديكتاتور بشار الأسد، يدفع الآن أثماناً كبيرة لإسناد غزة، من بنيته القتالية وموارده البشرية القيادية، ومن حاضنته الشعبية.
2 ـ حزب الله حركة مقاومة في مواجهة إسرائيل، وأي انزياح عن هذا التوصيف خدمةٌ لدولة الاحتلال. لكن هذا لا يمنع من القول إن الحزب ميليشاويٌ وسلاحٌ في يد إيران وبشار الأسد لقتل السوريين وتهجيرهم وتغيير بنية سورية الديمغرافية.
3 ـ حزب الله كان في حالة توتّر مع إسرائيل ما قبل 7 أكتوبر، بشأن ترسيم الحدود البريّة، وقصة الخيّام على الحدود شاهدة على حالة شدّ كان يَترقّب الجميع تفجّرها إلى مواجهة عنيفة. وغالبُ الظنّ أنه حتى لو لم يدعم حزب الله غزةَ، كانت إسرائيل ستعود لتصفية حساب عالقٍ في لبنان، مزهوةٍ بتدمير القطاع، ومدفوعةٍ بشهوة القتل المفتوحة، في سياق دعم أميركي مفتوح لجرائمها، وانصياعٍ غربي، واستسلام عربي، وتواطؤ من بعض دول الإقليم. أما الآن، فقد تدحرجت الأمور لما هو أبعد من الترسيم، نحو فرض حزب الله معادلةَ التهجير مقابل التهجير وقد نزح عشرات آلاف الإسرائيليين بسبب عملياته التي وصلت إلى ما بعد حيفا، وتغيير إسرائيل لقواعد الاشتباك وهي ترفع السقف أعلى بتجاوز كل الخطوط الحمراء.
4 ـ شهوة القتل في إسرائيل مفتوحة، وحزب الله فقد توازنه مرحلياً مثلما هو واضح، بعد هجمات تفجير أجهزة الاتصال وإخراج المئات من عناصره من الخدمة القتالية أو الإسناد، فضلا عن سهولة اغتيال قادته، وأيضا دموية استهداف حاضنته الشعبية. وتبقى ذروة الاستهداف تنفيذ محاولة اغتيال أمينه العام حسن نصر الله في الضاحية، في إسقاط كليّ لقواعد الاشتباك، وبما ينهي قصة “الخطوط الحمراء”.
5 ـ ولئن تسبّب التصعيد في المواجهة إلى خسائر فادحة لحزب الله، ممثلة في الإنجازات التكتيكية التي حققتها إسرائيل، فإن نتنياهو فعليا قد يقبل مرحلياً تأجيل الحسم مع التهديد إلى حرب أخرى، وسيكون مكتفياً بتحقيق هدفين:
أ ـ وقف الهجمات من لبنان، بما يسمح بتحقيق هدف إعادة النازحين الإسرائيليين.
ب ـ فصْل لبنان عن غزة. ولا أتصوّر أنه يريد اجتياحَ لبنان عبر عملية بريّة رغم كل التهويل، إذ سيغرق في مستنقعٍ أعْسر من “مناورة غزة”، فضلا عن أنها ستجلب فاعلين آخرين، وقد اتفقت الفصائل العراقية الموالية لإيران على “دعم حزب الله بالجهد العسكري البشري والتسليحي”. وهو أيضا ما تخشاه واشنطن التي تقدّر أن الغزو البريّ، ولو إلى نهر الليطاني، ورطةٌ لإسرائيل قد تورِّط قواتِ أميركية تالياً مع حشْدها قطعاً عسكرية استراتيجية في المنطقة.
وفي هذا السياق، لا بد من تركيز فكرة أصبحت شديدة الوضوح: طيلة حرب غزة، تحوّلت واشنطن إلى مجرد “مستشار” يقدّم النصيحة لإسرائيل بهدف حمايتها من ضريبة تغوّلها وتنطّع نتنياهو، ربطاً بمصلحة إسرائيل حصراً، وقد أسقطت إدارة بايدن الديمقراطية من قواميسها كل نزوع حقوقيةٍ وهي تُسلّح بلا انقطاع الإبادةَ الجارية وتبرّرها، كما هدمت كل حدٍّ للمعقولية السياسية نحو السلام العادل للقضية الفلسطينية. وبشأن هذه العلاقة التي صارت أكثر تشوُّها منذ 7 أكتوبر، حتى الصحافة الإسرائيلية صارت تكتب بشكل متزايد عن خشية نتنياهو حلفاءه في حكومة اليمين المتطرف (بن غفير وسموتريتش) أكثر من إقامته اعتبارا للرئيس جو بايدن، وبالتبعية إضرارا استراتيجيا (محتملا) بالعلاقات المتينة والعميقة بين واشنطن وتل أبيب التي تُظهر “تمردا” متناميا.
6 ـ حزب الله ينتصر إذا صمَد، وتخسر إسرائيل إذا لم تحْسم، أو تأخرت في حسم جبهة لبنان، أو توقفت المواجهة دون تدمير قدرات الحزب وجرّ إيران إلى أتون الحرب.
7 ـ إنْ انتقل نتنياهو بجيش الاحتلال إلى تصفية الحساب القديم والجديد مع حزب الله، فإن الحرب في غزة لم تحقّق أهدافها، إذ أن هدفيْ (استعادة المحتجزين والقضاء على المقدرات العسكرية والسلطوية لحماس) لم يثبت إنجازهما. وعليه، يكون لبعض القراءات جانبٌ من الصوابية وهي ترى أن الانتقال إلى لبنان نوع من الهروب بعدما وصلت الحرب في غزة إلى “مرحلة إشباعٍ” دون إمكانية إعلان نهايتها بتحقّق أهدافها، فيكون لزاماً صرف الأنظار إسرائيلياً نحو حرب جديدة تضمن لنتنياهو استمرارَ تحالفه الحكومي، وتؤجّل الحساب بشأن ما جرى ليلة 7 أكتوبر والإخفاق السياسي والاستخباراتي والعسكري.
8 ـ الحرب مع حزب الله تمكّن حماس والمقاومة في غزّة مرة أخرى من متنفسٍ، وقد نقلت إسرائيل ثقلها العسكري إلى الشمال. وإنّ حركات المقاومة باستمرار تمتلك القدرة على سرعة التعافي وتنظيم صفوفها وتدبير مواجهة مفتوحة بحسب الإمكانات والمقدّرات، وهي قادرة دائما على الإيذاء وإبقاء الاحتلال موضع شكٍ بشأن أهدافه. ولعّل هذا ما تعمل حماس على تبليغه ميدانيا، بتواتر الإعلانات عن عمليات القسّام.
9 ـ وإنْ شكّلَ نقل مركز ثقل الجيش الإسرائيلي إلى لبنان متنفساً للمقاومة في غزة، فإنه في المقابل أخذ من القطاع جزءاً من الاهتمام الدولي الواجب، خاصة وأن الإبادة مستمرة، وسيكون تهميش غزة من مشهد الصورة أفيدَ لإسرائيل للانتقال إلى مراحل جديدة لا تقلّ خطورة عن بشاعة الجرائم، وترتبط بمستلزمات “اليوم التالي”، بما تعنيه من ترتيبات، وإمكان فسْح المجال للعودة لمخططات التهجير والقضْم من مساحة غزة، والاستيطان مثلما يطالب متطرفو حكومة نتنياهو.
10 ـ صار بحكم المعلوم أن غزو لبنان لن يجرّ إيران إلى المواجهة المباشرة وقد تحدّدت قواعد الاشتباك التي تترتب عن أي تهديد جدّي ضد حزب الله، باستنفار الوكلاء ضمن ما يُسمى “محور المقاومة”. وإنّ إسرائيل تستثمر من رصيدها الأخلاقي النازف في الغرب عموما، وأميركا أساسا (وهل من رصيد أخلاقي للاحتلال؟!!)، والعين على إيران. وإنّ جرَّ طهران إلى مواجهة مدمرة هدفٌ إسرائيلي حيوي يمكن أن يتجاوز ما يتحقّق في غزة أو لبنان. ولهذا لم تردَّ طهران على اغتيال إسماعيل هنية في عاصمتها، في هجوم اعتبرته مسّ “شرفها وكرامتها”، وتُسوِّف باستمرار هجوماً لن يأتي، أو سيقع ضمن حدود عمليات لا تفضي لحرب، كما فعلت عقب قتل سفيرها بقصف السفارة في دمشق في أبريل. ولعل خطاب نتنياهو الجمعة أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، الحافلِ بالأكاذيب والعدوانية والإرهاب، نموذج لتكثيف التحريض على إيران، باعتبارها “رأس الأفعى” (بتعبيره سابقا)، حتى صوّر مقاومة الفلسطينيين مشروعاً إيرانياً، قفزا على حقيقة الاحتلال الإسرائيلي.
11 ـ وإنْ كان سلوك إيران مُحيّرا للبعض، أطرح أفكار ضمن محاولة فهم تكتيكات إيران:
أ ـ إيران حسمت، منذ أشهر، وحتى قبل التصعيد مع حزب الله، أنها لا تريد أن تتورّط في حرب مباشرة مع إسرائيل، ومن خلفها (أو أمامها) أميركا. وإنّ انتخاب الإصلاحي مسعود بزشكيان رئيساً مؤشرٌ، وهو الذي لا يوفّر فرصة هذه الأيام في نيويورك لرسم معالم الموقف بالحديث عن تجنّب “السقوط في فخ” الإسرائيلي، لإدراك طهران أن أي حرب ستكون مدمّرة لها. بل إن هندسة الانتخابات الإيرانية الأخيرة، بعد سقوط (إسقاط؟!!) طائرة الرئيس إبراهيم رئيسي، ثم استبعاد كل المرشحين الإصلاحيين إلا واحداً، وتقسيم صفّ المحافظين بقبول ترشّح 6، كان مقدمة للنتيجة التي نراها اليوم ضمن تحولات داخلية ترتبط بغضب متنامٍ تفجّر، مثلا، احتجاجاتٍ عقب مقتل الشابة مهسا أميني.
وإن إقرار مجلس صيانة الدستور لقائمة مرشحين نهائية للانتخابات الرئاسية مهّدت إلى انتخاب إصلاحيٍ فيه بعضٌ من الدهاء الإيراني والنفعية الشديدة، والوعي الشديد بالمصالح الحيوية والثانوية، ووضوح كبير في الأولويات ومستحقات كل مرحلة.
ب ـ إيران يُفترّض أنها تطوّر برنامجا نوويا سيغيّر معالم المنطقة قطعاً وموازين القوى، وهي أحرص على حمايته من التدمير بخطأ في الحساب. وإن إبقاء الحرب بعيدةً عن حدود الدولة مصلحةٌ استراتيجية حتى لو تدمّر لبنان وغزة مجتمعين. وإن إيران أيضا استثمرت في أصول مليشياوية طائفية/ مُقاوِمة في أكثر من بلد عربي، حتى تبقي إسرائيل تحت الضغط، وأيضا لإضعاف الدولة الوطنية في أكثر من بلد، ضمن نزوع الهيمنة في المنطقة وتحسين شروط المفاوضة الدولية، بإقامة “دويلاتٍ داخل دول” عربية، كما في العراق واليمن ولبنان.
ج ـ إيران تحارب إسرائيل عبر أذرعها في حروب الوكالة، لكنها هي نفسها إيران التي تفاوض الغرب وتبعث بقدرٍ كبيرة من الليونة ضمن برغماتية مشهودة في الإيرانيين، ولن يكون مستغربا أن تصير غزة ولبنان والبحر الأحمر بنودا في المفاوضات. وهنا يكون مفيدا الاطلاع على عرض وزير الخارجية عباس عراقجي في نيويورك هذه الأيام على الولايات المتحدة الشروع في مفاوضات فوراً لإعادة إحياء الاتفاق النووي، كما من المهم سماع الرئيس بزكشيان يتحدث عن “سعيه إلى الجلوس مع الأميركيين والأوروبيين للحديث والتفاوض”، وأن بلاده “تريد أن تعيش بسلام ولا تريد حروباً”، في ظل “فتوى” المرشد علي خامنئي خلال هذا الشهر عن جواز التراجع التكتيكي.
قصارى القول..
نحن غير معنيين بكل هذا، ولسنا أرقاما في الحسابات الكبيرة، وقتما الأمن القومي لدولٍ ومصالحها الحيوية يتجاوز بآلاف الكليومترات حدودها الجغرافية. نحن غير معنيين إلا أن نُوصَم، بالحقّ والباطل، بالتحالف مع دولة احتلال مجرمة، صارت بحكم القاتل المتسلسل، الذي يقتل بألف أسلوب، من الحرب العدوانية المباشرة كما في غزة ولبنان، إلى أساليب الاختراق عبر التطبيع المُفضي إلى الابتزاز للدول بمصالحها الحيوية وقضاياها.