حديث “الحَاجَّة” والسجن.. هل نعيد بناء الخطاب الإصلاحي على قواعد “الشبيبة الإسلامية”؟

كان “براديغم” المحنة والابتلاء والسجن أحد أهم عناصر أزمة المشروع الإصلاحي للحركة الإسلامية المغربية حين نشأتها الأولى في سبعينيات القرن الماضي، تأثرا بسياقات وتجارب بعيدة ومختلفة.
كما كان التحرر من هذا “البراديغم” والتخلص من شِرَاكِهِ أحد أهم منجزات جيل التأسيس، الذي استطاع أن يراجع ويجدد وينتج خطابا إصلاحيا نافعا فتح آفاق جديدة ومتعددة للتجربة الإصلاحية، بعنوان عريض يمكن صياغته اختصارا في معادلة “العيش في سبيل الله لا يقل أهمية عن الموت في سبيل الله”.
وقد مكنت هذه المراجعات من تغيير بوصلة المشروع الإصلاحي، وذلك بالانتقال من ضيق “الاستعداد للابتلاء”، إلى سعة الاشتغال بالمتاح وما تحته عمل وأثر.
إن المنطقي هو أن يتطور الخطاب الإصلاحي مع الزمن، وأن يتم تجديده في إطار التراكم النافع للإصلاح، وذلك بالمحافظة على المكتسبات ومعالجة الاختلالات بالنظر إلى ما تمت مراكمته من تجارب وما تم تحصيله من منافع.
وفي تفاعل إيجابي مع التطور العام لبلادنا الذي لا يمكن أن تتم مقارنته بأي حال من الأحوال بما كانت عليه الأوضاع زمن النشأة الأولى، وحين هيمنة “براديغم” المحنة والابتلاء والسجن.
خلافا لهذا التطور المنطقي، وبعكس منطق التطور والتراكم، تابعت حديث الأستاذ عبد الإله بنكيران، في كلمته خلال المؤتمر الجهوي لجهة بني ملال خنيفرة، وخاصة حينما قال: “خلال الحملة التحريضية الأخيرة، قلت للحَاجَّة، -“يقصد زوجته السيدة نبيلة”-، هيئي لي أغراضي الخاصة، حتى إذا كنت ذاهبا للسجن فلن أكون مضطرا للبحث عنها (…)، واليوم الذي سيكون فيه على عبد الإله بنكيران أن يؤدي الثمن سيؤديه، وانا كنت قد قلت لجلالة الملك، “نعم سيدي حتى لو وضعتني في السجن فأنا معك بدون أي مشكل” … فأنت حتى ولو كنت محبوبا عند الملك، وكنت أنت أيضا محبا له، فقد يكون في السياسة ما يقتضي أمورا مثل هذه. والسياسة تقتضي التضحية، وإذا كان الأمر يقتضي أن نضحي من أجل مصلحة البلاد أو في سبيل كلمة حق أو خير، أو في سبيل إخواننا في غزة فنحن مستعدون”. انتهى كلام الأستاذ عبد الإله بنكيران.
إن هذا الخطاب تكرر أكثر من مرة وبصيغ مختلفة وفي سياقات متعددة. وإن الناظر إليه في علاقته بأصول خطاب المدرسة الإصلاحية التي ينتمي إليها الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، يصاب بالحيرة والاستغراب. ذلك أننا لو قمنا بحجب اسم هذا الأخير وصفته عن خطابه، وقدمناه إلى متلقي خالي الذهن، لما تردد في نسبته إلى زعيم حركة راديكالية، تعيش في بلد منغلق ومحفوف بالمخاطر، حيث ترزح فيه الحريات تحت خطر داهم، وأبواب السجون فيه مستعدة لاستقبال رئيس حكومة سابق وزعيم حزب سياسي.
إن أسوأ ما في هذا الخطاب هو أنه متفلت من كل عقال. هو متفلت من عقال الأصول والمكتسبات الإصلاحية كما رسخت واستوت على سوقها في إطار المدرسة الإصلاحية التي ننتمي إليها. وهو متفلت أيضا من أصول الخطاب السياسي العاقل والراشد والمعتدل والمختلف مع “الحركات الاحتجاجية” التي تطلب المطلقات لا الممكنات، وهو أمر لا عيب فيه، إذ هي منسجمة مع طبيعتها ووظيفتها، لكن العيب هو أن يصدر مثل هذا الخطاب عن زعيم حزب سياسي بنى تجربته على مقاربة إصلاحية وعلى “ميزة تنافسية”، تجعل منه فاعلا لا متفاعلا. وصاحب مقاربة إصلاحية مختلفة عن مقارابات باقي الفاعلين، من مختلف المشارب والقناعات والمذهبيات.
إن هذا التفلت من عقال الأصول الإصلاحية والسياسية، يزداد سوءا حين النظر إلى مآلاته في علاقة الحزب بمحيطه، فكيف سيتم النظر إلى حزب يستعد فيه أمينه العام للذهاب إلى السجن؟ من سيُقْبِلُ عليه؟ ومن سيتعامل معه؟ ومن سيرهن مصيرا مشتركا معه؟
ثم ما هي مآلات مثل هذا الخطاب على علاقة الحزب مع المؤسسة الملكية، باعتبارها فاعلا رئيسيا في النسق السياسي المغربي؟ كيف ستستقبل هذه الأخيرة حديثا متكررا عن استعداد رئيس حكومة سابق للذهاب إلى السجن، وهو يستفيد من تقاعد استثنائي تم بقرار ملكي، ويستفيد من حماية أمنية مقربة ودائمة؟ ما هي الرسائل التي يتم إرسالها بمثل هذه التصريحات؟ وهل فيها ما ينفع مسارات الإصلاح في البلاد؟ وهل فيها ما يقوي أدوار الحزب الإصلاحية؟ وهل فيها ما يوسع من دائرة شركاء الحزب والمتعاملين معه؟ وهل فيها حرص على حفظ المكتسبات الإصلاحية الاستراتيجية وعلى تسهيل تجربة الأجيال المقبلة؟
يمكن لكل واحد منا أن يطرح جملة أسئلة على هذه الشاكلة، وسيجد نفسه عاجزا عن فهم منطلق وغايات مثل هذا الخطاب الذي يعسر أن نجد له تفسيرا منطقيا ينفع الحزب حاضره ومستقبله.
والغريب والعجيب، هو أن الأخ الأمين العام، يذكر جيدا تداعيات خطابه في نهاية شهر يوليو سنة 2016، في الملتقى الوطني لشبيبة الحزب بمدينة أكادير، حين كان رئيسا للحكومة، حيث قال: «إذَا كَانْ خْصْنَا نْفْدِيوْ هادْشِي بالأراوح ديالنا مستعدين، ثقافتنا يا معشر القوم لا تعرفونها.. لا تخوفونا لا بالسجن ولا بأي شيء”.
ثم استرجع مقولة ابن تيمية الشهيرة: “ماذا يفعل أعدائي بي؟ .. جنتي وبستاني في صدري، حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة”. وقد أدى ذلك إلى توتر كبير مع المؤسسة الملكية، حيث لم نجد جوابا مقنعا لسؤال: “إذا كان هذا هو خطاب رئيس الحكومة، فماذا ترك للمعارضين ممن هم خارج النسق؟”. والثابت اليوم بالرواية الصحيحة وبالسند العالي وبالوقائع والأحداث، أن ذلك الخطاب كان له ما بعده.
والخلاصة، التي أشرنا إليها مرارا وتكرارا، إن أوضاع حزب العدالة والتنمية تقتضي مراجعات منهجية عميقة وجريئة، وتقتضي أيضا تقييما حقيقيا لتجربته بما لها وما عليها، وأن مستقبله رهين بما سينتج عن ذلك. وهذه أمور عظيمة لا يمكن أن تعالجها إملاءات الخطابة، ومتطلبات الفرجة والتحشيد.
كما أن الانتشاء بالنجاح فيما يتقنه الحزب ويتميز به -وأساسا قدرته على إنجاح محطاته التنظيمية وإعمال مقتضيات الديمقراطية الداخلية- والتغني والافتخار بكل هذا على أهميته، لا يجيب على الإشكالات الإصلاحية والسياسية التي يواجهها الحزب.
ختاما، كنت أتمنى أن يراجع الأستاذ عبد الإله بنكيران كثيرا من كلامه، وأن يقلل من مرسل القول وسيئه، وأن يأخذ بعين الاعتبار مجريات ومضامين التداول حين انعقاد المؤتمر الوطني التاسع للحزب.
ومن ذلك أن ينتبه جيدا إلى ما عبرت عنه -كلاما وامتناعا عن الكلام- ثلاثة دوائر أساسية داخل الحزب، وبعضها من أكثرها قربا إليه وملازمة له. وهي دائرة “مكتب الأمانة العامة”، ودائرة قيادات سياسية وتقنية من داخل الأمانة العامة التي اشتغلت معه، ودائرة كثير من رموز الحزب وصناع الرأي داخله وخارجه. إن الانتباه إلى ذلك والاستفادة منه يقتضي كثيرا من التواضع وحسن القول، كما يقتضي أيضا قيادة الحزب بما يحفظ المكتسبات الإصلاحية الاستراتيجية، وبما يسهل مهام الأجيال المقبلة. كما يقتضي ذلك ألا يكون الانتصار للذات، وإرجاع الصاع صاعين ذات اليمين وذات الشمال، هو ما يملي الخطاب ويسوس القول ويبني الرأي.