جيل زيد: معنى السياسة بعيدا عن رقابة الدولة
يشهد المغرب، كما غيره من المجتمعات الحديثة، تحولا عميقا في بنية السلطة وفي معنى السياسة ذاتها. فالنظام السياسي الذي تأسس تاريخيا على مركزية الدولة وهيمنتها الرمزية يجد نفسه اليوم أمام مأزق مزدوج: من جهة، تآكل شرعيته التمثيلية بفعل انغلاق الحقل السياسي وتفكك مؤسساته الوسيطة؛ ومن جهة أخرى، بروز فاعلين جدد من خارج بنياته الكلاسيكية، يعيدون تعريف الفعل السياسي انطلاقا من فضاءات غير خاضعة للضبط، أبرزها الفضاء الرقمي الذي أصبح مختبرا حقيقيا لإنتاج المعنى والاحتجاج الرمزي
لقد مثل دستور 2011 لحظة وعدت بإعادة التوازن بين الدولة والمجتمع، غير أن المسار الذي تلاه اتجه نحو إعادة تركيز السلطة في يد الجهاز الإداري والأمني. وما بدا آنذاك انفتاحا سياسيا، تبين لاحقا أنه إعادة تموضع ذكي للسلطة داخل تعددية مراقبة و مضبوطة تدار ضمن حدود لا تمس جوهر النسق السلطوي. وهكذا، لم تتفكك بنية الدولة القديمة، بل أعادت إنتاج نفسها عبر واجهات جديدة وأدوات رمزية متجددة.
في المقابل، لم يحدث التحول في مؤسسات الدولة بقدر ما وقع داخل المجتمع ذاته. فجيل رقمي جديد تشكل خارج منظومة الأحزاب والنقابات التقليدية، وأعاد تعريف السياسة باعتبارها ممارسة يومية للحرية، لا نشاطا بيروقراطيا خاضعا للترخيص. جيل لا يؤمن بمنطق الولاء أو المعارضة كما عرفته الأجيال السابقة، بل يتعامل مع السياسة بمنطق التجاوز والإبداع و التمرد. إنه جيل يسائل السلطة من خلال السخرية والمفارقة والمقاومة التي تفرغ الخطاب الرسمي من معناه، في ما يشبه ما وصفه فوكو بـ”المقاومات الدقيقة” — مقاومات لا تسعى إلى إسقاط السلطة بل إلى تفكيك بنيتها من الداخل.
لكن أمام هذه الدينامية الشبابية الجديدة، اختارت الدولة أن تجيب بإجراءات شكلية أكثر منها تحولات جوهرية على المستوى السياسي. ففي ظل تراجع دور التنظيمات الحزبية والنقابية، لجأت السلطة إلى تدابير تقدم بوصفها تشجيعا للمشاركة السياسية، مثل الإعلان عن منح مالية للشباب دون الخامسة والثلاثين الراغبين في الترشح للانتخابات المقبلة.
هذه المبادرة، رغم ما تحمله من نوايا معلنة لتشجيع الانخراط السياسي، تبقى في جوهرها استجابة تقنية لمشكل بنيوي. فهي لا تواجه أزمة الثقة ولا انغلاق الحقل السياسي، بل قد تفتح مجالا ريعيا جديدا، يشبه النسخة السياسية من “المبادرة الوطنية للتنمية البشرية”. إنها محاولة لإدارة الأزمة لا لتجاوزها، ولتحفيز المشاركة المظهرية بدل بناء مواطنة فاعلة.
إن مثل هذه الإجراءات، مهما كانت مغرية في ظاهرها، تظل بعيدة عن معالجة جوهر المعضلة، لأن الجواب الحقيقي يكمن في دمقرطة الحياة السياسية والحزبية، وضمان مشاركة الشباب الفعلية في صناعة القرار، لا في تمويل مشاركتهم الانتخابية. فالمطلوب ليس ضخ المال في السياسة، بل ضخ الثقة فيها؛ ليس تحفيز الترشيحات، بل تحرير المجال العام ورفع القيود عن التعبير والتنظيم.
ما يعيشه المغرب اليوم ليس صراعا على من يحكم، بل على من ينتج المعنى السياسي. فالدولة ما تزال ترى السياسة إدارة للأجساد وتنظيما للولاءات، بينما تراها الأجيال الجديدة أفقا للحرية والإبداع الذاتي. تتحرك الدولة بمنطق الإجماع والضبط، والجيل الجديد بمنطق الاختلاف والمبادرة. ومن هذا التناقض تتولد كل توترات اللحظة الراهنة.
إن قراءة هذه الدينامية الشبابية بوصفها خطرا على الاستقرار هو سوء تقدير للحظة التاريخية. فهذه الطاقة الاجتماعية ليست تهديدا، بل فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. والمستقبل السياسي للمغرب سيتحدد في قدرته على تحويل هذه الطاقة إلى مشروع ديمقراطي فعلي.
ولعل المدخل إلى ذلك يبدأ بانفراج سياسي حقيقي: الإفراج عن المعتقلين.ات، فتح حوار وطني صادق، وإنهاء منطق “أمننة السياسة” الذي كبل المجال العام وأفرغه من مضمونه. فبدون حرية وكرامة، لا يمكن لأي مشروع وطني أن يعيد الإيمان بالمستقبل.
إن السياسة لم تمت، بل غيرت مكانها. والجيل الجديد لا يرفض الدولة، بل يطالبها بأن تعود إلى معناها الأول — أن تكون ضامنة للحرية و الحقوق، لا مراقبة و ضابطة لها،بعيدا عن منطق الحق و القانون.