جيفري ساكس: الحرب في غزة مدمّرة للمصالح الأمريكية والسعودية وسيط محتمل للسلام – حوار

في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية، أجرت مجلة “لسان المغرب” حواراً مع البروفيسور جيفري ساكس، أستاذ الاقتصاد السياسي بجامعة كولومبيا، والذي يُعد أحد أبرز المفكرين العالميين في السياسة الدولية والتنمية المستدامة؛ حيث تم اختياره مرتين ضمن قائمة مجلة “التايم” لأكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم، كما كانت ثلاثة من مؤلفاته الأكثر مبيعًا وفقًا لصحيفة “نيويورك تايمز”، كما حصل على جائزة “تانغ” للتنمية المستدامة، تقديرًا لإسهاماته في فهم وتحليل القضايا العالمية.
تناول الحوار رؤية البروفيسور ساكس بشأن السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، ومدى تأثير اللوبي الإسرائيلي في رسم القرارات الاستراتيجية لواشنطن، إضافةً إلى التداعيات المحتملة لسقوط نظام الأسد على مستقبل المنطقة.
كما ناقش الحوار فرص إنهاء الحرب في أوكرانيا، وإمكانية أن تتخذ إدارة ترامب مسارا جديدا في السياسة الخارجية، بعيدا عن النهج التقليدي القائم على التدخلات العسكرية وإذكاء الصراعات.
وركز الحوار أيضًا على الدور السعودي في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي، وإمكانية أن تلعب الرياض دور الوسيط في القضية الفلسطينية، خاصةً مع تصاعد الحديث عن حل الدولتين وضرورة إعادة التوازن للسياسة الأمريكية تجاه هذا الملف. كما تطرق إلى التأثيرات بعيدة المدى للحروب المتعاقبة التي شنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، والتي أدت إلى حالة من عدم الاستقرار الدائم في مناطق واسعة من الشرق الأوسط وأفريقيا.
إليكم النص الكامل للمقابلة:
- هل لازلت تخشى أن تدفع الولايات المتحدة العالم نحو حرب نووية؟
أعتقد أننا شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية أحد أهم التحركات نحو السلام منذ فترة طويلة. ورغم أن “ساعة القيامة”، التي تقيس مدى اقترابنا من حرب نووية، قد اقتربت أكثر وفقًا للإعلان الصادر في نهاية يناير، بناءً على أحداث العام الماضي، إلا أن ما شهدناه خلال الأسابيع الأولى من إدارة ترامب يشير إلى أننا قد نشهد نهاية سريعة للحرب في أوكرانيا.
كما أننا نشهد تسارعًا في تطبيع العلاقات مع روسيا. وربما على مشارف إنهاء الحرب في الشرق الأوسط أيضًا. أود أن أوضح أن هذه النقطة تظل أكثر افتراضية، ولكن السبب الذي يدفعني إلى قول ذلك هو أن ترامب، حتى قبل أن يصبح رئيسًا، كان قد توسّط فعليًا في اتفاق لوقف إطلاق النار. ورغم هشاشته، لا يزال هذا الاتفاق قائمًا في الشرق الأوسط.
- قبل أن ننتقل إلى الحديث عن الرياض، ألا تعتقد أن نتنياهو بحاجة إلى الحرب للبقاء في منصبه، وأنه على الأرجح لن يفاوض بجدية وسيسعى لاستئناف الإبادة الجماعية؟
أعتقد أن ما نشهده في أوكرانيا يُظهر أن زيلينسكي لا يملك خيارًا، فالحرب هناك ستنتهي لأن الولايات المتحدة قررت إنهاءها. الأمر ذاته قد يحدث في إسرائيل؛ فإذا أعلن ترامب أن الحرب قد انتهت، فلن يكون بإمكان نتنياهو الاستمرار فيها. فكل من الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة كانتا مدعومتين من الولايات المتحدة، ومكنتهما الولايات المتحدة، ومولتهما الولايات المتحدة، وزودتهما بالسلاح الولايات المتحدة. وإذا قررت الولايات المتحدة إنهاء الحرب في غزة، فستنتهي.
لذا، فإن الأمر ليس بيد نتنياهو، تمامًا كما أن قرار استمرار الحرب في أوكرانيا ليس بيد زيلينسكي. ففي كلتا الحالتين، كانت الولايات المتحدة هي الداعم الرئيسي لهاتين الحربين.
- تستمرُ إدارة ترامب في إرسال سفن وطائرات شحن ضخمة إلى إسرائيل كل 15 ساعة، محملة بالمعدات العسكرية. هل تعتقد حقًا أن ترامب سيوقف نتنياهو أم أنه سيمتد أكثر في الإبادة الجماعية؟
دعني أوضح أن ما يجري، سواء فيما يتعلق بأوكرانيا أو بإسرائيل، يعكس نهجًا استراتيجيًا متجذرًا في السياسة الأمريكية لعقود، ويمكن وصفه بأنه استراتيجية الدولة العميقة.
ففي حالة أوكرانيا، كان هناك جهد مستمر على مدى 30 عامًا لتوسيع النفوذ العسكري الأمريكي هناك، وكذلك في جورجيا، تحت شعار توسيع حلف الناتو.
أما في حالة إسرائيل، فقد استمر الدعم الأمريكي لحروب نتنياهو على مدى 30 عامًا تقريبًا، بهدف منع قيام دولة فلسطينية.
فيما يخص أوكرانيا، من الواضح أن ترامب يرى أن هذه المقامرة قد فشلت، ولن يقبل الاستمرار في لعب ورقة خاسرة، بل سيسعى لإنهاء الأمر.
أما في حالة إسرائيل، فالأمر أقل وضوحًا بكثير، نظرًا لقوة اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. والسؤال المطروح هو: هل ترامب مستقل في اتخاذ قراراته في هذا الملف، أم أن الحكومة الأمريكية لا تزال خاضعة لنفوذ اللوبي الإسرائيلي؟
لا شك أن استمرار الحرب في غزة لا يقتصر فقط على كونه كارثيًا على الفلسطينيين، بل إنه أيضًا مدمر للسياسة الخارجية الأمريكية، ولمصالحها الاقتصادية، ودبلوماسيتها، ودورها العالمي، وبيئتها الاستثمارية.
- من الذي يحدد سياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل وفلسطين؟ هل هو اللوبي الإسرائيلي، أم أن الولايات المتحدة تتبع مصالحها الوطنية؟
لا نملك إجابة قاطعة حتى الآن. وما يزيد الوضع تعقيدًا هو أن القضية لا تقتصر فقط على استمرار الحرب في غزة، بل هناك تكهنات واسعة بأن إسرائيل، سواء بمفردها باستخدام هذه القنابل أو بالتنسيق مع الولايات المتحدة، قد تشن هجومًا على إيران.
أعتقد أنه إذا استمرت الحرب في الشرق الأوسط بسبب استمرار الدعم الأمريكي لها، فإن ذلك سيلحق ضررًا بالغًا بالمصالح الأمريكية وبإدارة ترامب، التي لديها أولويات أخرى.
لذا، وللإجابة عن سؤالك، لا يمكننا الجزم بما سيحدث، ولا يمكنني الادعاء بأنني أملك إجابة واضحة بنعم أو لا. لكن ما يمكنني قوله هو أن ترامب، بمشاركة مفاوضه ستيف ويتكوف، أبرم اتفاقًا لوقف إطلاق النار من ثلاث مراحل، ورغم هشاشته، لا يزال ساريًا.
هذا الاتفاق هو من صنع ترامب، وإذا اختار الدفاع عنه، فسوف يستمر، لأنه في يد الولايات المتحدة أن تدعم نتنياهو أو أن تفرض السلام، كما هو الحال في أوكرانيا. وبالتالي، يبقى القرار بيد ترامب.
نصيحتي الشخصية له تتمثل في ضرورة تمسكه وحفاظه على السلام، ليس فقط من أجل الفلسطينيين ، بل أيضًا من أجل إدارة ترامب وفعاليتها. لأن استمرار هذه الحروب سيؤدي حتمًا إلى تدمير السياسة الأمريكية، تمامًا كما أضرّت بإدارة بايدن.
- ألا ترى أن اللوبي الإسرائيلي يفرض سيطرة مطلقة على الكونغرس الأمريكي؟
انظر، رئيس الولايات المتحدة الذي يؤدي وظيفته كما ينبغي يمكنه أن يواجه أي لوبي أجنبي. يمكنه التصدي لأي لوبي. هذه هي مهمته الأساسية.
- برأيك، ما هو موقف دونالد ترامب من قضية الدولة الفلسطينية؟ وهل السعودية قادرة على لعب دور ما في الملف؟
لم يسبق لترامب، وفق ما أعلمه، أن دعا إلى قيام دولة فلسطينية. كما أنه لم يعلن دعمه لحل الدولتين. لكن النقطة الأساسية التي كنت أكررها للرؤساء الأمريكيين وأعضاء الكونغرس والرأي العام باستمرار هي أنه لا يوجد طريق آخر لتحقيق السلام، هذه هي الحقيقة المطلقة.
وإذا كان ترامب يريد النجاح، فعليه أن يدرك أن 95% من سكان العالم يعيشون في دول تصوت لصالح حل الدولتين.
هناك إجماع عالمي شبه كامل على هذا الحل. فجميع دول جامعة الدول العربية، والدول الـ57 الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي الذي يضم 55 عضوا —حيث كنت مؤخرًا في قمته— تدعم حل الدولتين.
أما الدول التي تعارضه، فبالإضافة إلى إسرائيل، نجد الولايات المتحدة التي قدمت دعمًا غير مشروط لإسرائيل حتى الآن، وكذلك دولة ناورو، التي تُعد أصغر دولة في الأمم المتحدة ويبلغ عدد سكانها 12 ألف نسمة فقط.
كما تصوت ميكرونيزيا، التي ليست صغيرة تمامًا مثل ناورو ولكنها ملزمة بموجب معاهدة بالتصويت مع الولايات المتحدة، إلى جانب حفنة صغيرة من الدول الأخرى ضد حل الدولتين.
إذا حصل ترامب على المعلومات الصحيحة بشأن هذا الملف، وأعتقد أنه سيحصل عليها من أهم وسيط في هذه القضية، وهو ولي العهد السعودي، فإن الأمور قد تتغير.
هذا أمر بالغ الأهمية، ومن اللافت أن المفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة جرت في السعودية، وهذا ليس مجرد صدفة. فالسعودية دولة ذات أهمية كبيرة للولايات المتحدة، ولإدارة ترامب، وللشرق الأوسط ككل.
ما تقوله السعودية، وما يصرح به ولي العهد، هو أننا نملك طريقًا واضحًا للسلام. هذا المسار بسيط للغاية: تصويت واحد فقط في الأمم المتحدة، وهو أن تتوقف الولايات المتحدة عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد الاعتراف بدولة فلسطين، وتبدأ بدعم قيامها في مجلس الأمن الدولي.
- برأيك، إلى أي مدى تسعى كل من السعودية واسرائيل لعقد اتفاق يطبع العلاقة بينهما؟ وهل للسعودية شروط معينة مرتبطة بملفات المنطقة وفلسطين؟
ج: أولًا وقبل كل شيء، هناك مصطلح يستخدم في اللغة الأكاديمية وهو “ترتيب المعايير بشكل معجمي” (lexicographically)، والذي يعني أن الأولوية المطلقة لنتنياهو هي عدم قيام دولة فلسطينية، بغض النظر عن أي شيء آخر. إنه مستعد للتخلي عن كل شيء، حتى عن السلام العالمي، أو حتى المخاطرة بحرب عالمية ثالثة، فقط لمنع قيام دولة فلسطين.
لكن الحقيقة هي أن هذا القرار ليس بيده، بل بيد الولايات المتحدة. إسرائيل لا تملك حق النقض (الفيتو) ضد قيام دولة فلسطين، فهذه مسألة قانون دولي، وليست قرارًا إسرائيليًا. وفي العالم اليوم، هناك جهة واحدة فقط تستخدم حق النقض ضد إقامة دولة فلسطينية، وهي حكومة الولايات المتحدة.
- هل يتلاعب نتنياهو بترامب من أجل ربح الوقت، أم أنَّ ترامب قادر على الانفكاك من قوة اللوبي الاسرائيلي؟
المسألة تعود فعليًا إلى حقبة ترومان، ولكن خلال الثلاثين عامًا الأخيرة بشكل خاص، كانت الولايات المتحدة تنفذ ما تمليه إسرائيل.
هذا الأمر ينطبق على كل رئيس أمريكي في العصر الحديث. والسؤال المطروح الآن هو: هل سيتمكن ترامب من التحرر من ذلك؟ هل سيدرك أن نجاح إدارته يعتمد على اتخاذ موقف مستقل؟ وهل سيفعل ما أعتبره المهمة الأساسية للرئيس الأمريكي، وهي وقف الحروب؟
لم يحدث ذلك منذ عقود. فقد كان نتنياهو مسؤولًا عن العديد من الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة، بما في ذلك حرب العراق، والحرب في سوريا، والحرب في ليبيا، كما ناقشنا سابقًا، وكما كتب دينيس فريتز في كتابه” الخيانة القاتلة”(DEADLY BETRAYAL )، وكما أكد العديد من المؤرخين، فإن نتنياهو ونظراؤه الأمريكيون دعموا سلسلة من الحروب لإسقاط حكومات كانت تدعم المعارضة أو تؤيد الفلسطينيين في مواجهة مطالب نتنياهو المتشددة. والسؤال الحقيقي الآن هو ما إذا كانت إدارة ترامب ستغير هذا المسار. وإذا فعل ذلك، فستكون المرة الأولى منذ عقود.
والجدير بالذكر بأنَّ ترامب اتخذ بالفعل قرارًا مماثلًا فيما يتعلق بزيلينسكي بفعل انهائه للحرب الأوكرانية. ويظل سؤال هل ترامب رئيس مستقل، أم أن اللوبي الإسرائيلي لا يزال يفرض سيطرته يصعب الاجابة عنه.
- ما المطلوب من ترامب حتى يخطوا خطوات سليمة تجاه القضية الفلسطينية؟
حسنًا، إذا حصل ترامب على المعلومات الصحيحة، فسيدرك أن نتنياهو قاد رئيسًا تلو الآخر إلى الكوارث السياسية. والسؤال الآن: هل سيسمح ترامب لنفسه بأن يُقاد إلى كارثة أخرى على يد نتنياهو؟
- هذا يقودنا إلى ملف سوريا في رأيك ما هي التداعيات الجيوسياسية لسقوط نظام الأسد؟
النتيجة الأساسية هي المزيد من الفوضى، والمزيد من عدم الاستقرار، وزيادة احتمالات التصعيد نحو حرب عالمية. سقوط حكومة الأسد لا يعني نهاية شيء، بل هو مجرد بداية لفترة جديدة من عدم الاستقرار. من المرجح أن تستمر الحرب الداخلية في سوريا، وأن تواجه البلاد المزيد من الاضطرابات في المستقبل.
النقطة الأساسية أننا نشهد فوضى عارمة في غزة، والضفة الغربية، ولبنان، وسوريا، بالإضافة إلى اضطرابات واسعة في ليبيا، والصومال، والسودان.
هذه المنطقة أصبحت بؤرة متزايدة لعدم الاستقرار، كنتيجة مباشرة للسياسات الأمريكية والإسرائيلية الهادفة إلى الإطاحة بحكومات واحدة تلو الأخرى. والنتيجة ليست مجرد خراب، بل منطقة ضخمة من عدم الاستقرار الدائم. هذا هو الأمر الوحيد الذي يمكننا تأكيده بشكل قاطع في هذه اللحظة.
- ما الذي يعنيه سقوط نظام الأسد بالنسبة لفكرة إقامة دولة فلسطينية؟
من الصعب تقييم الوضع في الوقت الحالي. إذا نظرنا إلى الأمر بشكل سطحي، فقد يبدو أن هذا التطور يضر بالقضية الفلسطينية، حيث إن ما حدث ظاهريًا هو الإطاحة بدولة حليفة لإيران، بعد حرب طويلة شنتها إسرائيل والولايات المتحدة ودول أخرى، من بينها تركيا، ضد النظام السوري منذ عام 2011.
لذلك، إذا كان الضغط على إسرائيل هو ما كان من المفترض أن يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية، فإن هذا التطور قد يخفف الضغط عن إسرائيل على المدى القريب. ولا شك أن هناك أصواتًا داخل إسرائيل ستقول الآن “بما أن إيران أصبحت أضعف، لأن حلفاءها في لبنان، وخاصة حزب الله، وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة، أي حماس، بالإضافة إلى سوريا كدولة حليفة، قد تم إضعافهم جميعًا، فيمكننا الآن فعل ما نريد”.
نسمع بالفعل أصواتًا متطرفة في إسرائيل تدعو إلى الضم الكامل للأراضي الفلسطينية. كما نسمع أصواتًا تدعو إلى التطهير العرقي، ولدينا إبادة جماعية جارية في غزة، لم يتم إثباتها قانونيًا بعد، لكنني أعتقد أن محكمة العدل الدولية ستحكم بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية، ما يشكل انتهاكًا لاتفاقية الإبادة الجماعية لعام 1948.
لكن إذا نظرنا إلى ما وراء هذه التطورات، فإن حالة عدم الاستقرار الجماعي لا تفيد أحدا. إسرائيل لم تصبح أكثر أمنا بعد أن أدت الفوضى إلى إسقاط جارتها الشمالية الشرقية من خلال تمرد تقوده جماعات جهادية. بل إن التهديد الذي تواجهه إسرائيل قد ازداد.
رد فعل إيران على كل هذا لا يزال منتظرا، لأننا نعلم أن إيران قريبة من تطوير سلاح نووي. ورغم رغبتها في التفاوض بشأنه مقابل السلام، فإنه إذا تم دفعها إلى الزاوية، فإن التيار المتشدد داخل إيران، الذي يدعو إلى امتلاك السلاح النووي، قد ينتصر في النهاية.
هناك قدر هائل من الغطرسة لدى إسرائيل وداعميها الصهاينة في الولايات المتحدة، سواء المحافظين الجدد أو اللوبي الإسرائيلي، الذين يواصلون ارتكاب الأخطاء ذاتها. لقد أسقطوا حكومة تلو الأخرى، ولم يؤدِ ذلك إلى السلام، بل أدى إلى انتشار أوسع للاضطرابات والموت الجماعي.
لذلك، أعتقد أنه من السابق جدًا لأوانه تحديد ما يعنيه هذا بالنسبة للفلسطينيين. ولكن ما هو مؤكد أن الإسرائيليين، أي نتنياهو ورفاقه، المتطرفين، الذين يؤيدون الطرد والضم و”إسرائيل الكبرى”، يحتفلون الآن بهذا التطور. لكن لا انتصارات تتحقق وسط الفوضى.
- كما يعلم الجميع بأن النظام السوري كان محمياً بفضل الدعم الروسي، فلماذا لم تقدم روسيا دعمًا عسكريًا لنظام الأسد هذه المرة؟
أعتقد أنه من الصحيح القول إن سقوط نظام الأسد خلال أسبوعين كان صدمة لجميع الأطراف الفاعلة في المنطقة. كانت تركيا تدعم الجماعات الجهادية للسيطرة على مدينة حلب في الشمال، لكنها لم تكن تتوقع أن يؤدي انتصار سريع هناك إلى انهيار النظام بالكامل.
ما حدث بالفعل، هو أن حكومة الأسد كانت تعتمد عسكريًا على حزب الله أكثر من اعتمادها على الجيش السوري نفسه. ميليشيات حزب الله مدعومة من إيران والمتمركزة في لبنان، لعبت دورًا أساسيًا في دعم النظام السوري. ولكن مع تصعيد إسرائيل لحربها ضد حزب الله خلال الشهور الماضية، اضطر الحزب إلى سحب قواته من سوريا.
تعرض حزب الله لضربات قاسية في لبنان، وقُتل عدد من قادته على يد إسرائيل. ولم يدرك أحد تمامًا مدى اعتماد الأسد العسكري على حزب الله. ومع إضعاف حزب الله بشكل كبير بسبب الهجوم الإسرائيلي، أصبح الطريق إلى دمشق مفتوحًا بطريقة لم يتوقعها أحد.
تفاجأت روسيا مثل الجميع بتطورات الأحداث المتسارعة، وسارت الأمور بسرعة لدرجة أن موسكو أدركت أن الموقف لا يمكن إنقاذه. لم يكن هناك أيضًا أي طريقة لإيران لدعم حزب الله، الذي كان قد أصيب بالفعل بخسائر فادحة. وعندما أعلنت طهران أنها سترسل تعزيزات للحزب، تدخلت إسرائيل وقصفت طرق الإمداد.
ما حدث كان عملية منسقة بدعم من تركيا، والولايات المتحدة، وإسرائيل. وفي هذا السياق، ومع انشغال روسيا في القتال ضد الولايات المتحدة في حرب بالوكالة في أوكرانيا، ومع إضعاف حزب الله بشدة، ومع صعوبة إيصال الإمدادات إلى سوريا، ومع تفكك الجيش السوري ربما بسبب الرشاوى أو الاختراقات الاستخباراتية من قبل إسرائيل، ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والمخابرات التركية كل هذه العوامل جعلت روسيا، وكذلك إيران، تدركان أنه لا يمكن فعل شيء في هذه اللحظة.
- أشرت إلى دور وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في تحديد مصير المنطقة وعلاقتها بالجماعات الجهادية، هل يمكن أن توضح فكرتك؟
يجب أن نفهم أن الجهاديين السُّنة حصلوا على دعم الولايات المتحدة في عدة مناسبات منذ عام 1979 مثل أحداث البلقان والشيشان وأفغانستان منذ عام 1979.
أعتقد أن الجميع يجب أن يدرك الآن أن أسامة بن لادن كان صناعة أمريكية. بالطبع نحن لا نُروج للحقيقة في بلدنا. لا توجد لدينا تحقيقات شفافة أو تقارير صادقة. لم يتم إخضاع وكالة الاستخبارات المركزية لمراجعة شاملة منذ 49 عامًا، وتحديدًا منذ لجنة تشيرش عام 1975.
من وجهة نظري، وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية منظمة كارثية وغير خاضعة للقانون، لا تملك أي معايير أخلاقية فيما يتعلق بالقانون أو الحقيقة أو الشفافية أو حتى مراجعة أخطائها الفادحة بعد وقوعها.
الولايات المتحدة دعمت الجهاديين تاريخيًا، وهذا يمتد إلى عام 2011 في حالة سوريا، عندما أصدر أوباما أمرًا بالإطاحة بالأسد؛ قرار أوباما بإسقاط الأسد كلّف وكالة الاستخبارات المركزية بمهمة دعم الجهاديين.
- حسب هذا الطرح فإن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط لا يتم هندستها في البيت الأبيض؟ وما دور الاستخبارات الأمريكية بذلك؟
أعتقد أن المسألة التي لا يتم الحديث عنها بجدية في الولايات المتحدة، والتي لا يفهمها الأمريكيون جيدًا، هي أن سياستنا الخارجية مبرمجة بشكل عميق وتمتد لعقود. ما نشهده اليوم ليس نتيجة لرئاسة أوباما، أو ترامب، أو بايدن، بل هو نتيجة لاستراتيجية دولة عميقة مستمرة.
وكالة الاستخبارات المركزية هي الأداة الأساسية لتنفيذ هذه الاستراتيجية، وهي تحافظ على سياسة خارجية ثابتة بغض النظر عن تغيّر الإدارات. منذ عام 1945، كانت السياسة الأمريكية تهدف إلى تدمير الاتحاد السوفيتي، وبعد عام 1991، كان الهدف هو إضعاف روسيا أو تدميرها إن أمكن.
أما فيما يتعلق بالشرق الأوسط، فإن ما نشهده اليوم ليس بجديد، بل هي خطة وضعت في التسعينيات، وتحديدًا من قبل ريتشارد بيرل، أحد أبرز المخططين الأمريكيين المرتبطين بإسرائيل. الفكرة كانت الإطاحة بجميع الحكومات التي تدعم الفلسطينيين، وخاصة التي تدعم المقاومة مثل حماس وحزب الله.
بدلًا من التفاوض مع الفلسطينيين والاعتراف بدولة فلسطينية، قررت الولايات المتحدة وإسرائيل الإطاحة بسبع دول؛ وهي العراق وسوريا ولبنان وإيران وليبيا والسودان والصومال. من بين هذه الدول السبع، تعرضت ست منها لحروب أمريكية أو حروب عبر وكلاء تدعمها واشنطن.
هذه الخطة وُضعت رسميًا في عام 2001، لكنها كانت مبنية على خطة سابقة صاغها نتنياهو عند توليه منصبه في 1996.
بدأت العملية بغزو العراق في عام 2003، مستندةً إلى “ورقة قانونية واهية”، هي “قانون تحرير العراق” الذي وقع عليه كلينتون والكونغرس عام 1998، مما جعل الإطاحة بصدام حسين سياسة أمريكية رسمية قبل أحداث 11 سبتمبر. وبعد هجمات 11 سبتمبر، تحولت هذه القائمة إلى عقيدة حرب رسمية للبنتاغون.
الهدف كان غزو العراق، ثم التوجه إلى سوريا، ثم لبنان، ثم إيران، ثم الصومال، ثم السودان، ثم ليبيا. لكن المقاومة العراقية عطّلت الجدول الزمني، مما أدى إلى تأخير تنفيذ الخطة الأصلية، عندما تولى أوباما السلطة، تم تكليفه بمواصلة التنفيذ، فكانت سوريا الهدف التالي.
في 2011، أطلق أوباما عمليات وكالة الاستخبارات المركزية للإطاحة بالأسد، وبناءً على طلب إسرائيل، دعمت الولايات المتحدة إثيوبيا لغزو الصومال، كما دعمت واشنطن الحركات المتمردة التي أدت إلى تقسيم السودان إلى دولتين، مما تسبب في حروب كارثية مستمرة حتى اليوم.
وفي 2011، قادت الولايات المتحدة حملة الناتو لتدمير ليبيا، مما أدى إلى حرب مستمرة منذ 13 عامًا.
أما الهدف الأخير على القائمة، فهو إيران. نتنياهو يراها “الجائزة الكبرى”، لكنه لم ينجح بعد في دفع الولايات المتحدة إلى الحرب ضدها ومع ذلك، لا يزال يحاول بكل الطرق لبلوغ هدفه المدمر.