جرح الحدود الغائر…يوم نقلت القوات الجزائرية حقول “العرجة” من المجال المغربي إلى السيادة الجزائرية
لم يكن الحدث معزولا أو استثنائيا، بل إن القوات والجرافات الجزائرية التي انتقلت إلى منطقة “العرجة” لنقل حقولها من المجال المغربي إلى السيادة الجزائرية، كانت تتحرك على إيقاع أصوات نيران المدفعية والمقاتلات والصواريخ، التي ترددت في سماء المناطق الصحراوية للحدود المغربية الجزائرية، من خلال مناورات عسكرية ضخمة للجيش الجزائري من جهة، وأخرى للجيش المغربي رفقة حليفه الأمريكي في مناورات الأسد الإفريقي، من جهة أخرى. ولا يخفى على أي من المراقبين، كيف تشكل المناورات العسكرية مناسبة لبعث رسائل التهديد والتلويح باستعمال القوة.
كما لا يعتبر سؤال الحدود الترابية للمغرب مرتبطا بنقطة “العرجة” وحدها، بل وباستثناء الواجهة الأطلسية الشمالية للمغرب، يواجه محيط المملكة من جميع الجهات، سؤال الحدود والسيادة، بدءا من الواجهة الشمالية المخترقة بنقط الاحتلال الإسباني، مرورا بالحدود الشرقية التي عاشت هذا الحادث مع الجزائر، والحدود الجنوبية الشرقية المحفوفة بحقول الألغام والجدار الأمني، ثم الواجهة الأطلسية الجنوبية التي تختزن خلافا حدوديا بحريا صامتا مع جزر الخالدات الإسبانية.
رغم هذا الطابع الملغم للحدود المغربية بمختلف واجهاتها، إلا أن الدولة تباشر الملف بقدر جديد من الوضوح في السنوات القليلة الماضية، من خلال عمل عسكري ميداني في الواجهة الجنوبية البرية، وآخر قانوني دبلوماسي في مجال الحدود البحرية، وثالث استراتيجي في الواجهة الشمالية، من خلال اشتغال طويل وهادئ على تغيير الوضع الاقتصادي والاجتماعي، تمهيدا لتغيير محتمل للوضع السيادي. وحدها الحدود الشرقية للمملكة، مع الجارة الجزائر، تقبع ملفوفة في كثير من الغموض والصمت المريبين.
يكاد لا يصدر عن الدولة المغربية أي موقف صريح حول الوضعية الفعلية للحدود مع الجزائر. وفي أوساط النخبة السياسية، يسود خليط من المعطيات المتضاربة والمتناقضة، بين من يسلّم بمقتضيات اتفاقية 1972، ومن ينكر التسليم النهائي والكامل للمغرب بتلك المعاهدة، وبين أصوات متفرقة تخرج بين الفينة والأخرى للإشارة من جديد إلى الحقوق التاريخية للمغرب في “صحرائه الشرقية” الواقعة، حاليا، تحت السيادة الجزائرية. دون أن يثير ذلك حفيظة الدولة كما كان الحال مثلا مع تصريحات الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، حميد شباط، بخصوص الحقوق التاريخية للمغرب في الأراضي الموريتانية، والتي جرّت عليه رد فعل عنيف من جانب وزارة الخارجية المغربية.
تململ رسمي تجاه الصحراء الشرقية
لم يعد الأمر في حاجة إلى وضوح أكثر بعدما استضافت وكالة المغرب العربي للأنباء، أحد الأصوات المعبرة عن مواقف واختيارات الدولة المغربية، مديرة مؤسسة الوثائق الملكية، المؤرخة بهيجة السيمو، شهر فبراير 2023، لتعلن أن “الصحراء الشرقية” الواقعة جنوب غرب الجزائر حاليا، هي أرض مغربية حسب وثائق وخرائط رسمية توجد في حوزة المملكة.
أكثر من مجرد مناورات ودعاية، تجد هذه التطورات تفسيرها في خطوات نوعية من الجانبين، انعكست بشكل مباشر على ملف الحدود المشتركة بين البلدين، باعتباره أصلا لكل الأزمات التي تعيش علاقات البلدين على إيقاعها منذ استقلالهما عن فرنسا.
التطوّر النوعي الأول يتمثل في تمكّن المغرب من حسم معركة المعبر الحدودي للكركرات لمصلحته، محققا تغييرا جذريا في خريطة المنطقة منذ الحقبة الاستعمارية الأولى.
فخلافا للوضع الذي ظل قائما منذ إعلان وقف إطلاق النار في الصحراء بداية التسعينيات، دفع المغرب لأول مرة بحدوده الجنوبية لتلامس بشكل مباشر الحدود الموريتانية، مزيلا بذلك الشريط الفاصل الذي ظل قائما بين النقطة الحدودية المغربية في الكركرات، والنقطة الحدودية الموريتانية. أي أن المغرب يعود لأول مرة منذ قرنين أو أكثر، ليعانق عمقه الإفريقي.
أمر يبدو بسيطا في المستوى الجغرافي، لكنه كبير من منظور جيوــ سياسي، إذ كسّر المغرب للمرة الأولى منذ عمليات التغلغل الاستعماري الأولى في المجال الصحراوي، طوق العزلة الذي فُرض عليه وكان وراء التحركات الميدانية الشهيرة للسلطان الحسن الأول الذي حاول إفشال تلك المخططات في القرن 19.
أما التطورات النوعية المضادة، فهي وإلى جانب المناورات العسكرية الضخمة التي قامت بها الجزائر غير بعيد عن الحدود المغربية، يوجد تطوّر أكثر حساسية يتمثل في إعلان الجزائر شهر يونيو 2021، عبر منصات دعايتها العسكرية، عن رسم الحدود الفاصلة بينها على مستوى ولاية تندوف، وبين الأراضي المغربية التي تعتبرها ترابا لجمهورية البوليساريو.
يتعلّق الأمر بخط طوله حوالي 50 كيلومترا (80 كيلومترا حسب بعض المصادر المغربية)، يفصل بين الأراضي الجزائرية في تندوف، وبين المنطقة الواقعة شرق الجدار الأمني من الصحراء المغربية، والتي تزعم البوليساريو أنها “محررة”، وأنها تمارس نوعا من السيادة فيها.
صحراء الحسن الأول وصحراء الحسن الثاني
إشكالية الحدود المغربية الجزائرية في المجال الصحراوي ليست جديدة، بل تعود إلى فترة ما قبل دخول الحماية الفرنسية إلى المغرب. وفي الوقت الذي ترتبط معركة استرجاع “الصحراء الغربية” بالملك الحسن الثاني، يعود أصل قضية “الصحراء الشرقية” إلى عهد السلطان الحسن الأول، بفعل محاولات هذا الأخير صد عمليات التغلغل الفرنسي انطلاقا من الأراضي الجزائرية، خاصة منها أقاليم “توات” و”الساورة”، وتجمع على ذلك جميع المصادر التاريخية، بما فيها وثائق الأرشيف الفرنسي.
كما كشفت وثائق أمريكية حديثة العهد بالخروج من خانة السرية، وجود قناعة راسخة لدى واشنطن بكون فرنسا اقتطعت أجزاءً من التراب المغربي وضمّتها إلى الجزائر، خلال فترة سيطرتها على البلدين، أي الاستعمار في الجزائر والحماية في المغرب. فباريس كانت تعتبر الجزائر جزءا من أراضيها، بينما كانت “تقص” أجنحة المغرب لمنع استعادته طابعه الإمبراطوري بعد إنهاء العمل بمعاهدة الحماية.
في هذا السياق، تقول مذكرة صادرة عن وكالة المخابرات المركزية (سيا) “CIA” بتاريخ 29 أكتوبر 1963، أي مباشرة بعد اندلاع ما يُعرف بـ”حرب الرمال” بين المغرب والجزائر، إنه لم يسبق قط رسم الحدود بين المغرب والجزائر، في المنطقة الواقعة جنوب فكيك. “وخلال فترة الإدارة الفرنسية لكل من المغرب والجزائر، وقعت تعديلات متتالية للحدود الإدارية التي تفصل بين المنطقتين المغربية والجزائرية داخل مجال النفود الفرنسي، بشكل يخدم مصلحة الجزائر التي كانت تعتبر قانونيا جزءا من التراب الفرنسي، بينما كان المغرب تحت الحماية فقط”.
ورغم نجاح فرنسا طيلة أكثر من قرن وربع من وجودها في الجزائر من دفع خط الحدود “الإدارية” بين المجالين الجزائري والمغربي نحو الغرب، إلا أن المطالب المغربية لم تتقادم ولم تسقط. “أذكر أننا ذهبنا للمنفى في العشرين من غشت 1953 يوم عيد الأضحى، وقبل ذلك بشهرين جاء باشا تيندوف لتقديم البيعة، وكان ذلك في أواخر شهر رمضان. ومعلوم أنه إلى حدود 1953 لم يكن يروج في تندوف إلا الطابع البريدي المغربي، وهذا بصرف النظر عن الأراضي الأخرى”، يقول الملك الراحل الحسن الثاني، متحدثا عن “الصحراء الشرقية” وشرعية المطالب المغربية بشأنها.