توضيح الواضحات من المفضحات
أمينة فوزي زيزي
لم يكن يوم الاثنين 16 دجنبر 2024 يوما عاديا، ولا يمكن أن يكون كذلك. فلقد عقد مجلس النواب جلسة عمومية خصصت للأسئلة الشفهية الشهرية الموجهة إلى رئيس الحكومة حول السياسة العامة وتحديدا موضوع البنيات التحية رافعة اقتصادية. قدم رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، عرضا مدته 50 دقيقة تقريبا حول البنيات التحتية، تلتها بعد ذلك مداخلات النائبات والنواب من مختلف الفرق والمجموعة النيابية، بالإضافة إلى النواب غير المنتمين لأي فريق أو مجموعة. 30 دقيقة المتعلقة بتعقيب رئيس الحكومة على مداخلات النائبات والنواب، كانت كافية جدا لكي تعري الواقع الذي نعيش فيه اليوم. واقع مرير عنوانه العريض تضارب المصالح ليس سرا أو تحت الطاولة، وإنما جِهارا نَهارا وأمام الملأ. دافع رئيس الحكومة في معرض جوابه على أحقية مجموعته الاقتصادية المشاركة في الصفقات الوطنية وفي الاستثمارات الكبرى التي تخص البلاد، وبالتالي صرح أمام الجميع بنيل مجموعته الاقتصادية (افريقيا غاز وكرين أوف أفريقيا) صفقة تحلية مياه البحر بالدار البيضاء والتي سبق وأن كشف بعض معطياتها وزير التجهيز والنقل واللوجستيك، نزار بركة، منذ سنة (دجنبر 2023) حيث وصف الثمن المقدم من لدن المستثمرين «بالتاريخي».
نعم، هذا ما قاله رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، بعظمة لسانه من داخل المؤسسة البرلمانية التي تعتبر أعلى سلطة تشريعية بالبلاد. متناسيا بذلك أنه اليوم رجل سياسة يفترض أنه خاضع للمساءلة داخل قبة البرلمان. المتتبع للشأن السياسي، سيختلط عليه الأمر لا محالة، لأن المشهد كان سرياليا بامتياز، دقائق معدودة اختلطت فيها جميع الأوراق، وأصبح مجال الاستثمار الشخصي يناقش بقبعة السلطة التنفيذية من داخل السلطة التشريعية. هذا أمر لا يليق بمؤسسة رئاسة الحكومة التي لها تاريخ طويل وعريض، وبمؤسسة البرلمان بحمولتها الدستورية والقانونية.
لقد ضرب رئيس الحكومة يوم الاثنين المقتضيات الدستورية خصوصا المادة 36 منه، والتي تتعلق بحالات تنازع المصالح، وهي مادة مباشرة وصريحة. وضرب كذلك المقتضيات الدستورية التي جاء بها الباب 12 من الدستور المتعلق بالحكامة الجيدة لسيما الفصول 154 و156 و157، هذه الفصول المهمة التي تلامس مبادئ أساسية تتعلق بالمساءلة وتقديم الحساب، وإرساء آليات الحكامة الجيدة.
خلال نفس الجلسة، صرح رئيس الحكومة، وتحديدا في التوقيت 2س52 دقيقة، على أن الحكومة قررت عدم منح الدعم العمومي للمشاريع والاستثمارات المتعلقة بالماء، وهو أمر غير صحيح بتاتا. فلقد تم نشر بلاغ رسمي بموقع رئاسة الحكومة، يوم الثلاثاء 10 دجنبر، يتعلق باللجنة الوطنية للاستثمارات، حيث جاء في الفقرة الثالثة من البلاغ على أنه تم المصادقة «على 4 مشاريع في إطار نظام الدعم الخاص المطبق على مشاريع الاستثمار ذات الطابع الاستراتيجي، تتعلق بقطاعات التنقل الكهربائي، والصناعة المرتبطة بالطاقات المتجددة، وكذا تحلية مياه البحر بجهات كلميم وادنون، وطنجة-تطوان-الحسيمة، والدار البيضاء-سطات». ستة أيام بالتمام والكمال تفصل ما بين تاريخ عقد اجتماع اللجنة الوطنية للاستثمارات وتاريخ الجلسة الشهرية، فهل يعقل أن ينسى رئيس الحكومة هذه التفاصيل المهمة؟
يجب أن نكون مسؤولين اليوم وأن نُقِر بصوت عال أن من بين أسباب هذا التغول والهيمنة الحكومية التي نعيشها اليوم خاصة في الجانب المتعلق بتضارب المصالح، يعود للفراغ التشريعي والقانوني الذي يعرفه المغرب في مجال تضارب المصالح أو ما يعرف بتنازع المصالح كما جاء في الوثيقة الدستورية.
فالمغرب لحدود اليوم، لا يتوفر على منظومة شمولية ومندمجة مكلفة بضبط ومعالجة تضارب المصالح. والحديث عن منظومة شمولية، يعني أننا بحاجة أولا لإطار قانوني واضح المعالم ودقيق يروم مكافحة تضارب المصالح، ونحتاج ثانيا لمؤسسة مستقلة مكلفة برصد ومراقبة وضبط حالات هذه الآفة التي أصبحت تنخر مجتمعنا. ما نتوفر عليه اليوم لايعدو أن يكون مجموعة من الضوابط واحترازات قانونية التي تحول دون حصول تضارب المصالح في مجال معين. مثلا حالات التنافي ، أو منع ممارسة أعضاء الحكومة أي نشاط مهني في القطاع الخاص أو أي نشاط قد يؤدي إلى تنازع المصالح (المادة 33 من القانون التنظيمي 065-13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة)، وعدم الجمع بين عضوية المحكمة الدستورية وعضوية الحكومة أو مجلسي البرلمان أو المؤسسات الدستورية المنصوص عليها في الدستور (المادة 5 من القانون التنظيمي رقم 066-13 المتعلق بالمحكمة الدستورية)، والأمثلة كثيرة في هذه الصدد. هذا التوجه يبقى قاصرا ومحدودا، وأثره متواضع جدا. ففي آخر المطاف هذه المقتضيات القانونية لا تقدم آليات المعالجة والتصدي وتصحيح هذا السلوك الذي يفتح أبواب الفساد على مصراعيه.
لكي تتضح الصورة لا بد أن نتوقف عند بعض التجارب الدولية في هذا المجال، ففرنسا مثلا تتوفر على السلطة العليا لشفافية الحياة العامة وهي هيأة مستقلة تأسست سنة 2013، مكلفة بتقوية وتعزيز النزاهة، ومراقبة التصريح بالممتلكات، ومحاربة جميع أنواع تضارب المصالح، وتنظيم انتقال المسؤولين من القطاع العام إلى القطاع الخاص أو العكس لتفادي استغلال المعلومات السرية وهو ما يعرف ب revolving doors، وتنظيم عمل جماعات الضغط وكيفية تأثيرها على القرارات العامة، والتأكد من شفافيتها. أما في كندا فتتوفر على مفوض تضارب المصالح والأخلاقيات conflict of interest and ethics commissioner، وهو مسؤول مستقل في البرلمان الكندي مهمته تطبيق قانون تضارب المصالح وقانون البرلمان في مجلس العموم. ويعمل باستقلالية عن الحكومة والأحزاب السياسية من أجل ضمان الحياد والموضوعية، كما يخضع المفوض للمساءلة أمام البرلمان ويقدم تقاريره ويجيب على أسئلة النواب. و تتوفر الجارة تونس علي هيأة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد والتي رأت النور سنة 2017، وتقوم بدور مهم في مجال محاربة الفساد بجميع أنواعه، والتحقيق في حالات تضارب المصالح. كلها تجارب مهمة من شأنها المساهمة في تجفيف بؤر الفاسد.
أصبح المغرب اليوم في حاجة ماسة لإطار قانوني شامل، وكامل، ومندمج هدفه الأساس محاربة جميع أنواع تضارب المصالح، مع ضرورة اضطلاع هيأة عمومية بتنزيل المقتضيات القانونية المتعلقة بهذه الآفة، وتمتيعها بجميع الصلاحيات والموارد الأساسية لتحقيق النجاعة المطلوبة. ويمكن اليوم أن تقوم الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها بهذه المهمة إن توفرت لها الظروف المواتية للعمل بكل مهنية.
ما يظهر اليوم جليا أن إرادة الحكومة في محاربة الفساد بجميع أنواعه ضعيفة وتكاد تكون منعدمة، من جهة تتعرض الهيأة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها للهجوم من طرف الحكومة خاصة بعدما أماطت اللثام عن تقريرها السنوي لسنة 2023 والذي يتضمن تقييما سلبيا حول أداء الحكومة في مجال مكافحة الفساد. ومن جهة ثانية، لحدود اليوم لم يتم عقد أي اجتماع للجنة الوطنية لمكافحة الفساد رغم أن المادة 4 من المرسوم 582-17-2 ينص صراحة على ضرورة اجتماع اللجنة مرتين في السنة على الأقل. وختاما، لا يسعنا إلا القول بأن توضيح الواضحات من المفضحات.