story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

تهديدات ترامب.. هل هي إيذان بشرق أوسط جديد؟!

ص ص

عندما هدد فيها دونالد ترامب لأول مرة بتهجير سكان قطاع غزة، ظن عدد من المحللين -ومنهم صاحب هذا المقال- أن الأمر لا يعدو أن يكون ضغطا على السعودية حتى تتراجع عن شرط “إقامة دولة فلسطينية” مقابل تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”، وهو الظن الذي ما زال قائما ومحتملا إلى حدود الساعة؛ إلا أن تصريحات ترامب أصبحت أكثر جدية بتكرارها وتصعيد لغتها بين الفينة والأخرى، واعتبارا لردود الأفعال الصادر عن إدارات كل من مصر والسعودية والأردن.. وقد زادت الطينَ بلةً تصريحاتُ نتنياهو بعد لقائه بترامب في أمريكا. ويبدو من خلال هذه التصريحات أن ترامب ونانياهو اتفقا على خطة ما بخصوص غزة، إلا إذا كان كل منهما يخطط لاستدراج الآخر لسيناريو بعينه انطلاقا من خطابه.. وهو ما قد يصبح مستبعدا باستحضار اتفاقهما في أمرين اثنين: لا وجود لسلطة فلسطينية في غزة، القضاء على “حماس” داخلها.

يجب أن نتساءل أيضا؛ لماذا يلقي ترامب بمقترح تهجير الفلسطينيين في واقع لتوه خرج من حرب طاحنة اشترت أكثر من سنة؟ ولماذا ترفض كل من السعودية ومصر والأردن مقترح ترامب رفضا قاطعا وبدعم عربي واضح؟ ولماذا يرحب الكيان الصهيوني بهذا المقترح رغم علمه بمخطط ترامب، سلام دائم في المنطقة لا يخدم طموحات اليمين المتطرف داخل “إسرائيل”؟ وهل من سبيل أمام دول الوطن العربي للضغط على دونالد ترامب حفظا للقضية الفلسطينية وحفاظا على مصالحها في شرق أوسط جديد تستوطن “إسرائيل” عمقه الاستراتيجي وتزحف باتجاهه كل من تركيا وإيران، كل على شاكلته وبطريقته؟

يجب التذكير أولا بطريقة ترامب في حل المشاكل والخروج من الأزمات وتدبير مصالح الولايات المتحدة الأمريكية؛ تعتمد هذه الطريقة على مجموعة وسائل من قبيل: الضغط إلى أقصى حد للحصول على مكسب بعينه، تمويه الملاحظين والخصوم عن الغاية الحقيقية، الحصول على وسيلة للضغط في اتجاه آخر.

وهذا كله ربما وضعه ترامب صوب عينيه قبل أن يقترح تهجير الفلسطينيين إلى مصر والأردن دون حديث عن أي اعتراف بدولة فلسطين. يسعى ترامب إلى دفع السعودية إلى التراجع عن مطلب “إقامة دولة فلسطين على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية” مقابل تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل”، وإذا استعصى عليه ذلك فقد يصبح تهجير الغزاويين بديلا للضغط على اليمين المتطرف “الإسرائيلي” من أجل الاعتراف بفلسطين ما دام خطر غزة ومقاومتها قد ارتفع.. إن ترامب في خطابه السياسي يقوم بعملية تمويه كبيرة تخفي غايته الحقيقية: صرف اهتمامه نحو الصين وتطبيع علاقات “إسرائيل” مع محيطها بالحد من فاعلية يمينها واليمين الفلسطيني. هذا ويمكن قراءة تلويح ترامب بالسيطرة الأمريكية على غزة قراءة اقتصادية، ما دمنا نتحدث عن رأسمال مدني أمريكي يسعى إلى الاستثمار السياحي والعقاري والطاقي في غزة.

تهجير الغزاويين إلى كل من الأردن ومصر يفتح القضية الفلسطينية على مجهول قد يفضي -مع مرور الزمن وتوالي التهجير لأسباب طارئة- إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائيا، وفرض معادلة التعامل العربي مع الكيان الصهيوني مباشرة وبمعزل عن هذه القضية. ومن شأن سيطرة الكيان على غزة، والضفة في ما بعد، أن يربك الحسابات الجيوسياسية لكل من مصر والأردن.. فنتيجة لهذين التهجيرين سيصبح الخطر الصهيوني أقرب إلى مصر من جهة حدودها الشمالية-الشرقية وأقرب إلى الأردن من جهة حدودها الغربية. وإننا في هذا الصدد لا نتحدث عن “دولة” بحدود معروفة ومقيدة بالنظام الدولي، وإنما عن “يمين متطرف” يفكر بمنطق “التوسع الإسرائيلي”، ويعمل على تنزيل هذا التوسع كلما سمحت له الإمكانات التاريخية بذلك.

وكله في إطار مشروع كبير يسميه “إسرائيل الكبرى”، التي تشمل جزءا من مصر وجزءا من العراق والأردن ولبنان وسوريا، بل هناك من يتكلم عن “حقوق” وهمية للكيان في السعودية والمغرب العربي. ناهيك عن التأثير الديمغرافي للتهجير على الحسابات السياسية لكل من الأردن ومصر، وما تفرضه ذات العملية من أسئلة سياسية ومشاكل متعلقة بتدبير التوازنات الداخلية والحيلولة دون قلب المعادلات السياسية لكل نظام سياسي. الرد المصري الصارم عبر وزارة الخارجية، ومن خلال رفض السيسي لقاء ترامب على أرضية “التهجير”؛ هذا الرد يعكس الخطر الذي تستشعره دوائر القرار السيادي في الدولة المصرية.

وترفض السعودية التهجير القسري للغزاويين من أرضهم ومساكنهم، لأنها تعرف جيدا أنه يحول بينها وبين مطلب “الاعتراف بسيادة فلسطين على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية”. ما اقترحه ترامب يفرض على السعودية “تطبيعا” مجانيا، “تطبيعا بِبَلاش” بلغة عامية مشرقية. ترفض السعودية هذا النوع من “التطبيع” لأنه يعارض موقفها من القضية الفلسطينية من جهة، ولأنه قد يفرض عليها عددا من التنازلات في ملفات أخرى غير الملف الفلسطيني من جهة ثانية.

إذن هي عملية من الضغط المتبادل بين أمريكا ترامب والسعودية من أجل التوصل إلى حل أقل مما تريده السعودية وأقل مما تريده “إسرائيل” ويمينها المتطرف. وهنا سيكون ترامب قد ربح الكثير، إرضاء “جميع الأطراف” وتنفيذ سياسته في الشرق الأوسط بمباشرة إقليمية وإشراف أمريكي، وباقتسام أرباح إعادة الإعمار والاستثمار بين الرأسمال المدني الأمريكي ورأسمالات أخرى، عربية وأجنبية. الاستراتيجية بين ترامب والسعودية تكاد تكون واحدة، سلام دائم في الشرق الأرسط يفرّغ أمريكا للصين، كما يفرّغ السعودية لمشروعها الكبير في المنطقة. أما التكتيك، أي طريق الوصول إلى الاستراتيجية، فمصالحهما فيه متضاربة ومتناقضة في هذا الملف أو ذاك، أحد هذه الملفات الملف الفلسطيني.

ماذا على دول الوطن العربي فعله إزاء هذا الضغط الأمريكي؟ مهما كانت سياسة ترامب ضاغطة فإنها لن تكتسب فاعليتها من ضغط الإدارة الأمريكية فحسب. إنها في حاجة إلى فاعل إقليمي، في ظل غيابه أو تعثره أو رفضه تفقد هذه السياسة فاعليتها وقدرتها على الانتقال من حيز الإمكان إلى حيز الوجود. “الفاعل الإسرائيلي” جزء من المعادلة، وهو نفسه لا يخلو من تناقضات. أما الفاعل الثاني فهو دول الوطن العربي، بالإضافة تركيا وإيران. أمام “الفاعل العربي” عدة أوراق ليلعبها، منها علاقته بكل من تركيا وإيران، ومنها علاقته بالصين وروسيا (وهي قوية بالنسبة لكل من مصر والسعودية)، وكذا علاقته بدول الاتحاد الأوروبي التي تعرف علاقاتها بترامب نوعا من التوتر مقارنة بالإدارة الأمريكية السابقة.

أما الذي على الوطن العربي اعتباره فهو أن التناقض الحالي (وليس كل التناقضات بما فيها اللاحقة والمقابلة) مع ترامب ليس تناقضا استراتيجيا، وإنما هو تناقض تكتيكي تحسب له الحسابات التكتيكية مخافة أن يتحول الضغط المتبادل إلى مواجهة تناحرية ليست في مصلحة الوطن العربي ولا هي استراتيجيته حاليا. ليست استراتيجية الوطن العربي حاليا “نفي التبعية للرأسمال الأمريكي” نفيا مطلقا بالتحالف الكامل مع نقيضه الصيني، وإنما إحلال السلام والاستقرار الخلاقين لصالحه بدل “الفوضى الخلاقة” التي تخدم نقيض ترامب داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، وهذا النقيض هو “المجمع الصناعي العسكري”.

الصين نفسها ليست في تناقض تناحري مع الولايات المتحدة الأمريكية، فكيف سيستبق الوطن العربي الزمن ليشغل موقعا يتخلف عنه صاحبه الحقيقي، أي الصين؟ إيران التي لا تخدمها سياسات ترامب وتنتعش مطالبها بنقيضه تدفع بإصلاحييها لتدبير علاقة معقدة مع الإدارة الأمريكية الجديدة بأقل الخسائر، فكيف سيتصدر الوطن العربي مشهدا تزهد فيه إيران نفسها؟

أخيرا نقول، التناقض تكتيكي يدبَّر تكتيكيا، وترامب أصلح للعرب من نقيضه الفوضوي الذي لم يترك دولة من دول الوطن العربي إلا اشعل فيها حريقا “سياسيا” أو “ثقافيا” أو “عسكريا” أو “حقوقيا”.. التناقض مع “اقتصاد ترامب” و”تكتيكاته” لا ينبغي أن يتحول إلى معركة “تناحرية” كما توحي بذلك بعض الفصائل السياسية “العربية” التي اعتادت الحياة بروح من خطاب “الديمقراطيين” ووسائلهم في المنطقة.. هذه الفصائل لا هي تحكم دولا، ولا هي تدبّر مصلحة عامة.. رأسمالها الصراخ الوظيفي، “تيارات وظيفية” تكره “ديكتاتورية ترامب”، لأنها -ويا للعجب- تعشق “ديمقراطية مشعلي الحروب والفتن” في المنطقة!