story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

تقويض سلطة الاحتجاج لدى الطبقة العاملة..

ص ص

“مشروع القانون التنظيمي للإضراب بالمغرب” نموذجا

بقلم: النقابي محمد الملاخ

تقديم الموقع:

يعتبر هذا المقال في مجال حق الاحتجاج، مقالا نوعيا، كونه يؤسس قراءته على الأساس التاريخي، بمنطق دعم المواطنة وتحقيق التنمية والاستقرار للبلد، المنسجمة مع العمق الثقافي للشعب، منتقدا منطق السلطات النزاعة نحو التحكم في تعبير الفئات العمالية عن مطالبتها بحقوقها المستجدة، باعتبارها ركنا أساسيا في تحقيق الازدهار الرقي للبلاد.

مقدمة:

من خلال المحاولات المتكررة للحكومات المتعاقبة، منذ سنة 2001، من أجل تمرير مشاريع مختلفة للقانون التنظيمي للإضراب، والتي تم تقديمها في فترات زمنية متعددة، وما تضمنته من فصول ومواد، تشكل انتصارا سافرا لأرباب العمل ،على حساب الطبقة العاملة، ومحاولة مكشوفة من أجل تقديمها فريسة، في طابق من ذهب، لأصحاب رؤوس الأموال، كي يعيثوا فيها استعبادا واستغلالا وتحكما، ووضع مستقبلها المهني في يد بعض المسؤولين المستبدين الفاسدين، الذين يغيب عنهم حس المواطنة والمصلحة العامة للبلاد ومصلحة الرأسمال البشري، دون مراعاة لحقها الإنساني البشري في الاحتجاج ورفع الصوت من أجل تنبيه أصحاب القرار والرأي العام الوطني لما قد تتعرض إليه من ظلم وحيف وتهميش لملفاتها المطلبية وحقوقها المادية والمعنوية.. من خلال كل ذلك بات جليا لدى الجميع الرغبة القوية لهذه الحكومات، والحكومة الحالية بالخصوص، من أجل تقويض حق الإضراب والإجهاز عليه ومن تم الإمعان في إضعاف الطبقة العاملة وممثليها من المركزيات النقابية والجامعات والفدراليات الوطنية والنقابات القطاعية التابعة لها.

فماهي إذن، الأبعاد والأهداف المتوخاة من إصرار السلطة المتكرر على تقويض حق الإضراب وجميع الأشكال الاحتجاجية؟ وهل حقا تؤثر ممارسة هذا الحق على الاقتصاد الوطني ومكوناته سواء تعلق الأمر بقطبيه العمومي أو الخصوصي؟ هل حقا يمكن اعتبار أن المشاكل التي تتخبط فيها القطاعات الحيوية وضعف الخدمات الأساسية سببها بالأساس تنامي الأشكال الاحتجاجية المشروعة التي تشكل السبيل الوحيد للطبقة العاملة كي تعبر عن مطالبها وطموحاتها وآمالها، أم أن هناك خلل ما في منظومة تدبير السياسات العمومية ؟

لقد تعاملت سلطات ما بعد الاستقلال مع الاحتجاجات بأشكال مختلفة تنوعت ما بين تطبيق مقاربة أمنية صارمة وبيد من حديد في العديد من المراحل الزمنية، سعت بواسطتها إلى تطويق سلطة الاحتجاج من كل النواحي، وبين استعمال السبل القانونية التي تكبل هذا الحق وتضع العراقيل والعقوبات المبالغ فيها على ممارسيه، فجعلت من تكييف القانون وتغييره وسيلة للحد من حجم وتداعيات الاحتجاجات التي تعبر عنها الفئات الشعبية، حيث قامت بتعديل ظهير الحريات العامة سنة 1973 في اتجاه تشديد العقوبات وتفخيمها محاولة بذلك الحد من حجم الاحتجاجات خصوصا تلك التي عرفتها البلاد سنة 1965، إلا أن ذلك لم يضعف الاحتجاجات أو يمنعها من التفاقم، لتتجدد بشكل أكبر سنوات 1981، 1984، 1990، ويثبت بما لا شك فيه أن سياسة التطويق وتكييف القوانين من أجل تكبيل حرية الاحتجاج لا يمكن أن تحد منه، بل قد تكون عاملا مستفزا لمضاعفته بأشكال أكثر قوة قد تتخذ منحنيات عشوائية وغير منظمة في أحيان كثيرة.

  1. الإضراب والاحتجاج ثقافة مغربية أصيلة..

إن حق الإضراب والاحتجاج بشتى أنواعه، لازال لحد الآن يشكل الشمعة الوحيدة التي تستطيع من خلالها الطبقة العاملة والشعب المغربي بشكل عام أن يضيء بها المناخ الاجتماعي والسياسي الذي يعيش انتكاسة غير مسبوقة في تاريخ المغرب المعاصر بعد أن تم إضعاف صوت المعارضة والنقابات والأحزاب وتشتيت الكثير من مكوناتها والتنكيل بما تبقى حيا منها. وهو أيضا السبيل الذي تستطيع به تحقيق مطالبها المنصفة والعادلة وتحقيق مكتسبات تخول لها الحفاظ على حقوقها المادية والمعنوية والبحث عن الحد الأدنى من العيش الكريم من أجل مواجهة الارتفاعات المتتالية للأسعار وضعف القدرة الشرائية لديها، في ظل عدم وجود آذان صاغية تستطيع أن تنصت لآلامها ومعاناتها مع التدبير العشوائي للموارد البشرية وعدم وجود مسؤولين يؤمنون حقا بمبادئ الحريات النقابية، مما يدفعها إلى الخروج للاحتجاج وممارسة حقها في الإضراب.

لقد ارتبط هذا الحق بالشعب المغربي والفئات الكادحة بالخصوص أيما ارتباط، باعتباره شعبا حيا متحركا غير جامد تدفعه في ذلك التفاعلات النفسية والاجتماعية وتراكم التجارب التاريخية التي تطبع هذا البلد العريق، ويكفي أن نذكر باحتجاجات الحرفيين والإضرابات العامة في كل من فاس، مراكش، الرباط وسلا ومدن أخرى في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين (ثورة الدباغين بفاس سنة 1873- ثورة الإسكافيين والحرفيين بمراكش سنة 1904- وانتفاضات بمدن أخرى) احتجاجا على المحاولات المتكررة من أجل الرفع من الضرائب والجبايات والزيادة في أسعار المواد الأساسية وعلى الفساد الذي كان يتخبط فيه آنذاك الباشوات وأعوان المخزن، وكذا الاحتجاجات والإضرابات التي قادها مناضلو الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي والتي توجت بتأسيس أول ممثل للطبقة العاملة في المغرب يوم 20 مارس 1955 المتمثل في منظمة ”الاتحاد المغربي للشغل”، والتاريخ المغربي القديم والمعاصر يعج بالكثير من الأمثلة في هذا الإطار.

وبالتالي فإن الاحتجاج كسلوك طبيعي بشري يعيش في وجدان المغاربة وهو مكون أساسي من مكونات ثقافتهم ويعبر بشكل كبير عن مستوى وعيهم الاجتماعي والسياسي وقراءتهم الصحيحة لأوضاع البلاد بصفة عامة وإدراكهم العميق بالمعادلات الاقتصادية التي تشكل التوازنات بين الحقوق والواجبات أثناء قيامهم بعملهم ومساهمتهم في سلاسل الإنتاج، وأي محاولة لإضعاف هذا السلوك أو رغبة في القضاء عليه بشكل من الأشكال، ستؤدي لا محالة إلى ما لا تحمد عقباه، وإلى الإضرار بشكل كبير بشتى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

  1. الإضراب باعتباره شكلا من أشكال الاحتجاج المشروع..

يمكن القول في هذا الصدد إن الإضراب كفعل احتجاجي منضبط يشكل ضرورة مجتمعية لا تلجأ إليها الطبقة العاملة إلا بعد استنفاذ جميع المراحل الأولية للمطالبة بحقوقها العادلة، وبعد القيام بالعديد من المحاولات من أجل الاستجابة لملفاتها المطلبية، حيث يتم مواجهتها بأنواع شتى من المناورات والتكتيكات التي تنتهي بعدم تمكينها مما تصبو إليه من حقوق مادية ومعنوية، سواء تعلق الأمر بتطبيق سياسة الحوار المغشوش للحكومات المتعاقبة وأرباب العمل، أو بالتنفيذ الجزئي للاتفاقات الموقعة دون استكمال باقي المطالب بهدف امتصاص الغضب بشكل مرحلي، ليبقى تنفيذ الإضرابات والأشكال الأخرى من الاحتجاج ما هو إلا تحصيل حاصل في ظل واقع اجتماعي وسياسي هش ووجود خلل في منظومة تدبير مناخ العمل والموارد البشرية بصفة عامة، وغياب الآليات الناجعة الكفيلة بالاستجابة للحقوق ورد المظالم وبمحاسبة كل من تهاون في الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والنفسي للطبقة العاملة.

يورد الباحث المغربي د.الحبيب أستاتي زين الدين في كتابه (الحركات الاحتجاجية في المغرب ودينامية التغيير ضمن الاستمرارية) تعريفا للاحتجاج على أنه ”وسيلة للتعبير عن موقف أو قضية معينة في إطار حركة جماعية.. من خلال تبني أشكال تعبيرية متعددة كالوقفة أو الاعتصام أو المسيرة أو الإضراب عن العمل أو عن الطعام.. توجه فئة أو فئات مجتمعية من خلال هذه الأشكال من التحرك على مرأى ممن حضر ومسمعه رسالة أو رسائل إلى جهة أو جهات مسؤولة تقع على عاتقها التزامات وواجبات” (ص27.

ويعرف ذ. محمد الأمين الفشتالي حق الإضراب في كتابه (حقوق الإنسان والحقوق النقابية) بأنه: “هو الامتناع عن العمل كوسيلة يلجأ إليها العمال للضغط على أصحاب العمل إذا فشلت المفاوضة الجماعية” ويستطرد في نفس السياق ”وهو نوع من التوازن بين صاحب العمل والعمال بسبب عدم المساواة الاقتصادية بينهما وذلك للدفاع عن مطالبهم ومصالحهم” (ص35).

انطلاقا من هذين التعريفين يمكن أن نستخلص الهدف الذي يدفع الشغيلة بصفة عامة إلى خوض الإضراب أو أي شكل آخر من أشكال الاحتجاج، كما يمكننا أن نتساءل: ما الذي يدفع المحتجين إلى البحث عن هذه الأشكال من أجل إيصال رسالة احتجاجهم إلى الجهات المسؤولة والرأي العام الوطني، ألا توجد أشكال أخرى ”غير احتجاجية” أو قنوات رسمية تجعلهم يحققون ما يصبون إليه ويرفعون شكواهم إليها دون اللجوء إلى هذا الحق في الاحتجاج؟

إن الجواب على هذا السؤال يقتضي منا قراءة واقع السياسات العمومية التي تتبناها الحكومات المتعاقبة، سواء في القطاع العام أو الخاص، في تعاملها مع مطالب الطبقة العاملة والفئات المجتمعية عموما وفي منظومة إصلاح الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عبر مراحل زمنية متعددة في مغرب ما بعد الاستقلال، والحلول المقترحة للخروج منها التي لا تنفك أن تكون ترقيعية بامتياز وعلى حساب الفئات الهشة.

فلا يمكن لأي فئة متضررة مهما كان موقعها داخل المجتمع، سواء كانت من الفئات المهنية التي تمثل الطبقة العاملة في القطاعين العام والخاص أو من باقي الفئات الشعبية، أن تلجأ إلى خوض الأشكال الاحتجاجية الواردة في التعريف أعلاه دون أن تمر من مرحلة الأنين الذي يسبق الصراخ، والشكوى بالهمس والصبر والاحتساب وانتظار من ينصفها ويستجيب لما تطرحه من مطالب مشروعة أو ما ترنو إليه من رفع للحيف الذي يطالها أو تغيير لواقع مرير تعيشه نظرا لتردي أوضاعها المادية والمعنوية وعدم توفرها على ما يضمن لها الحد الأدنى من العيش الكريم ومن الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

ولا يمكن أن نغفل هنا عاملا آخر يتعلق في أحيان كثيرة بضعف الوساطة التي تعاني منها هاته الفئات وبمستويات مختلفة، حيث يشير الباحث المغربي في علم الاجتماع الحضري د.عبد الرحمان رشيق في كتاب (الحركات الاحتجاجية في تونس والجزائر والمغرب) ”غير أن مجتمعاتنا، في مقابل ذلك كله، لا تزال تعاني من ضعف المؤسسات السياسية والنقابية والجمعوية التي من مهمتها ممارسة دور الوساطة الاجتماعية بين السكان وأجهزة الدولة، ومن تم دور هذه المؤسسات في تخفيف حدة تطرف النزاعات الاجتماعية أو تساعد في تجنبه. وتشير البحوث الاجتماعية إلى ارتفاع درجة عدم الثقة بهذه المؤسسات التي تؤدي دور الوسيط” ص60.

من هنا يقع على عاتق الحركات الاجتماعية، باختلاف أشكالها وألوانها وبتنوع التعريفات التي أسندت إليها وتصنيفاتها، أن تعمل على تقوية تنظيماتها وتخليقها وتطوير آليات عملها وتجديدها والرفع من مستوى الملفات المطلبية التي تطرحها وتعزيز قدراتها التفاوضية الحجاجية ودمقرطة مؤسساتها وتشبيبها، حتى تستطيع أن تمثل الفئات المجتمعية أحسن تمثيل وأن تقف سدا منيعا أمام كل السياسات الترقيعية التي نهجتها الحكومات المتعاقبة والتي أثبتت فشلها ولم تستطع تحقيق أي شيء إلا الرفع من حالة الإحباط لدى الطبقة العاملة والفئات الشعبية وأدت بها في مراحل زمنية عديدة إلى الخروج للشارع والاحتجاج بكافة الوسائل والأشكال.

  1. في عدم التزام مشروع قانون 97.15 بالترسانة القانونية المغربية والمواثيق الدولية..

لقد تضمنت جميع دساتير البلاد هذا الحق في الاحتجاج منذ دستور 1962، إلى غاية دستور 2011 الذي عرف بانخراطه في ما سمي بـ “دساتير الحقوق”، وإن مشروع القانون التنظيمي للإضراب رقم 97.15 الذي تم سحبه سنة 2016 ولازالت العديد من مقتضياته تناقش في جلسات الحوار الاجتماعي بين الحكومة والمركزيات النقابية، يشكل صفعة قوية لهذه الدساتير كلها وخاصة الأخير منها، باعتبار أن واضعيه في مسطرة المصادقة التشريعية من أرباب العمل والمقاولات قد أجهزوا بواسطته على مقتضيات عديدة ومضامين تضمنها الفصل 29 من دستور 2011، حيث ينص على أن: ”حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات. حق الإضراب مضمون. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”.

وبالتالي فإن الحصار الذي تحاول الحكومة فرضه على الطبقة العاملة بمحاولة فرضها هذه الصيغة القانونية للإضراب، يجهز على ميزة الضمان والحرية النقابية التي كفلها دستور المملكة وجعل بذلك قيودا على كل من يفكر في ضرب الحقوق النقابية، لنجد أنفسنا الآن أمام تمرد غير مسبوق للمسؤولين داخل هذه الحكومة على أسمى قانون بالبلاد، محاولين كسر القيود التي فرضها عليهم من أجل عدم المساس بما صادق عليه المغرب من اتفاقات وعهود دولية تكفل ممارسة هذه الحقوق بدون قيود أو شروط إلا ما تعلق بالمساس بالسلم والأمان أو اتخذ أشكالا غير سليمة تشكل خطورة حقيقية على سلامة المواطنين.

إنه تمرد واضح على التشريع المغربي وعلى المواثيق الدولية التي جعلها دستور 2011 تسمو على القوانين الوطنية بل أكثر من ذلك فقد دعا إلى ملاءمة هذه القوانين مع ما التزم به المغرب من عهود دولية صادق ووقع عليها، حيث جاء في تصدير الدستور “وإدراكا منها لضرورة تقوية الدور الذي تضطلع به على الصعيد الدولي، فإن المملكة المغربية، العضو العامل النشيط في المنظمات الدولية، تتعهد بالتزام ما تقتضيه مواثيقها من مبادئ وحقوق وواجبات، وتؤكد تشبثها بحقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا. كما تؤكد عزمها على مواصلة العمل للمحافظة على السلام والأمن في العالم”

كما أكد على أن المملكة المغربية تلتزم بـ “- حماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما، والإسهام في تطويرهما؛ مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق، وعدم قابليتها للتجزيء- جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور وقوانين المملكة وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة”.

بالتاليستجد الحكومة نفسها في مواجهة التزامات المغرب المتعلقة بتوقيعه على الاتفاقات والعهود الدولية التي تسعى أكثر ما تسعى إليه إلى ضمان تحقيق الدول الموقعة والمصادقة عليها لما تضمنته من حفاظ على حقوق العمال في ممارسة العمل النقابي دون قيود مكبلة له أو مقيدة لأشكاله المتعارف عليها بين المنظمات النقابية.

وإنه حري بنا أن نشير إلى مسألة أخرى ذات أهمية كبيرة وهي التقدير خاطئ الذي قد يقع فيه العديد من الدارسين لهذا المشروع ويتعلق الأمر بقبول مبدإ “الأجر مقابل العمل” الذي أسس له بشكل صريح، بحجة اتفاق مجموعة من الدول عليه، حيث يعد ذلك كبوة لا تغتفر وانتكاسة حقيقية ويعبر عن عدم القدرة على قراءة الفوارق الموجودة بين البلدان والمجتمعات، باعتبار أن هناك اختلاف كبير في الوضعية الاجتماعية للعمال داخل الدول المصنفة في خانة “المتقدمة” واستفادتهم من أغلبية حقوقهم الأساسية المادية والمعنوية إذا ما قورنت بمثيلتها في الدول التي يعتبر العمال فيها من ذوي الدخل المتدني، وباعتبار قوة التنظيمات النقابية هيكليا ولوجيستيكيا في الصنف الأول، ما يخول لها في كثير من الأحيان إمكانية تعويض المضربين عن الاقتطاعات التي قد تطالهم، وبالتالي فلا قياس مع وجود الفارق، ومن شأن القبول بهذه المسألة بالذات في بلادنا أن يشكل إذعانا لأرباب المقاولات الذين يدفعون في اتجاه إضعاف قوة الطبقة العاملة وأن يضرب معارضة هذا المشروع في مقتل ويساهم في كسر شوكة الأجراء وممثليهم من النقابات المركزية والقطاعية، كما من شأنه أن يعطي المصداقية لترهيب الشغيلة بسلاح الاقتطاع من أجل ثنيهم عن ممارسة حق الإضراب دفاعا عن مطالبهم العادلة والمشروعة، وذلك ما يعارض عنصر الضمان والاطمئنان الذي كفله الدستور لهم ويخالفه مخالفة واضحة لا غبار عليها.

ومن جهة أخرى فإن مشروع القانون التنظيمي المذكور يدلل على هذا السلوك المتمرد للحكومة بعدم التزامه بالمادة 396 من مدونة الشغل التي تنص على ما يلي: ” تهدف النقابات المهنية.. إلى الدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية والمهنية، الفردية منها والجماعية، للفئات التي تؤطرها، وإلى دراسة وتنمية هذه المصالح وتطوير المستوى الثقافي للمنخرطين بها. كما تساهم في التحضير للسياسة الوطنية في الميدانين الاقتصادي والاجتماعي. وتستشار في جميع الخلافات، والقضايا التي لها ارتباط بمجال تخصصها”. حيث إن مشروع القانون أغفل عمدا ذكر عنصر الدفاع عن المصالح المعنوية للأجراء بشكل واضح وجلي، واقتصر في مادته الثانية على ذكر المطالب الاجتماعية والاقتصادية لها سواء في القطاع العام أو الخاص، مع العلم أن أغلب الشعارات المرفوعة أثناء الاحتجاجات تضع مطالبها المعنوية على رأس القائمة وأهمها تحقيق كرامة العمال وحريتهم وضمان العدالة الاجتماعية لهم.

كما نص المشروع بشكل صريح على عدم مشروعية الإضراب التضامني، وهو ما يمكن اعتباره استهدافا واضحا لوحدة الطبقة العاملة وتطبيقا سافرا لسياسة “فرق تسد” التي تضعف العمال والتي كانت تقتصر في تنزيلها فيما سبق على سياسة التشجيع على “التفريخ النقابي” لتنتقل بفضل مشروع القانون هذا إلى تقنين تفريق الطبقة العاملة وتشتيت وحدتها.

  1. حكومة أكتوبر 2021 والاختيارات المتناقضة المقصودة..

تبنت الحكومة الحالية التي أسندت إليها المسؤولية في أكتوبر 2021 خطابا وهميا يقضي باهتمامها بالفئات الشعبية والطبقات المقهورة، فسخرت آلتها الإعلامية لتشنف آذاننا في كل محطة مسموعة ومرئية ومكتوبة بما أطلقت عليه مشروع “الدولة الاجتماعية” التي تعتني بالفقراء والأجراء والفئات المعوزة، وبغض النظر عما آلت إليه المشاريع المتعلقة بذلك سواء بإقرار نظام الحماية الاجتماعية أو غيره، وسواء نجحت في ذلك أم لا، فنحن هنا لسنا بصدد إجراء تقييم شامل لكل ذلك ولكل ما سعت إليه من سياسة الإصلاح في اتجاه إعادة التوزيع الأفقي للمساهمات والضرائب دون تطبيق العدالة الجبائية، بل يمكننا القول إنها ناقضت نفسها بشكل كبير في محاولتها إضعاف فئات العمال وممثليها باعتبارها مكونا أساسيا من مكونات المجتمع وذلك عبر تبني مشروع القانون الذي نحن بصدد الحديث عنه.

إن من مقومات الدولة الاجتماعية تقوية دور النقابات في تدبير الشأن العام والحفاظ على مكانتها وهويتها، وليس السعي الحثيث من أجل كتم صوتها وتطويقها والقضاء على عوامل القوة التي تستطيع بواسطتها فرض نفسها، وتحقيق مطالب فئات الأجراء التي تمثلها: فالدولة بذلك تثبت بما لا مجال للشك فيه غياب أي إرادة سياسية لديها، من أجل إقرار مشروع الدولة الاجتماعية، ما يجعلها تصطف وراء تيار الليبرالية الجديدة الذي يجرد الإنسان من بعده الاجتماعي وقيمته الإنسانية.

وفي نفس السياق يشير ذ. علال بنلعرابي في مقال بعنوان (في مفهوم الدولة الاجتماعية) نشر بمجلة الربيع العدد 15 سنة 2023 على أن “الترجمة العملية لمضامين الدولة الاجتماعية تقتضي.. الاحترام التام للحريات النقابية والتأسيس لثقافة الحوار داخل المقاولات والشركات بما يزرع ويرسخ ثقافة الثقة بين العمال وأرباب العمل ووضع حد نهائي لحرمان الطبقة العاملة من التنظيم النقابي، إن عدم الاعتراف بحق الممارسة النقابية لدى العديد من المؤسسات الصناعية والفلاحية والخدماتية يتنافى مع الثقافة الديموقراطية ويدخلنا في مسالك أخرى لا تخلو من استبداد وتعسف”.

بالتالي فإن سياسة إخضاع قوى العمال وممثليهم لا يمكن أن تنسجم مع هذا المشروع الذي تدعي الحكومة رغبتها في تبنيه وتحقيق أهدافه، بل هي سياسة تكشف عن جذور إيديولوجية غربية تطبق الفكر التيربوليبرالي الذي يعتبر مرحلة جد متقدمة وصورة أكثر وحشية من الليبرالية الجديدة، وفي هذا الإطار يكشف الأستاذ الباحث عبد الواحد حمزة في نفس المصدر السابق على أن “من الملاحظ كذلك أنها –أي التيربوليبرالية- لا تأبه بالمراقبة السياسية، وأنها أشرت غير ما مرة على نهاية النقابات والدول، بازدراء الشغيلة وممثليها، وبعملها على تشجيع تبخر الرأسمال وتوسيع الخصخصة، من الجامعات إلى السجون، ومن المدارس إلى دور التقاعد، هاجسها الوحيد في ذلك، تعظيم الربح، دون أن تطرح البتة إشكالية إعادة التوزيع العادل والمنصف للثروة والنفوذ والسلطة في البلاد والعالم”. ذلك إذن هو نهج هذه الحكومة وديدنها وفي هذا التيار تتجلى أهدافها وتنجلي مضامين برامجهاوأبعاد سياساتها، وإن الأمر لا يتعلق بعشوائية في التدبير أو عدم إدراك من جانبها لمآلات الأمور أو خطورتها بل إن ما يتم الإعداد له في المرحلة المقبلة واضح وجلي وعن سبق إصرار وترصد ولا يتعلق إلا بالقضاء على كل ما من شأنه أن يقف في وجه سياساتها اللاإجتماعية التي تنهجها وعلى رأسه “ثقافة الاحتجاج” بجميع أشكالها، وباستعمال سلطة القانون الذي يتم صياغته عنوة ودون موافقة من يمثل الفئات الشعبية بغية ترهيب الطبقة العاملة وثنيها عن ممارسة حقوقها الإنسانية في الاعتراض على كل ما من شأنه أن يجهز على حقوقها ومكتسباتها المادية والمعنوية.

هو تناقض مقصود غايته ذر الرماد في العيون عبر تسخير البروباغاندا الإعلامية والخطابات الرنانة والإعلان المتكرر كذبا عن الرغبة في إقامة الدولة الاجتماعية، وفي نفس الوقت تنزيل قوانين وبرامج تضعف الفئات المجتمعية أو قد تستفيد جزئيا ومرحليا عبر إقرار برامج وإجراءات تقنية وتدابير ضعيفة لا تستطيع أن تحقق ما نحن بصدد الحديث عنه من نموذج الدولة الاجتماعية الحقيقية.

فهل ستستطيع الحكومة حقا تقويض سلطة الاحتجاج؟ أم ستجد نفسها عرضة لمواجهة الحركات الاحتجاجية بشكل مباشر ودون وسيط؟ إن كل محاولة للالتفاف على ما ينبغي القيام به من أجل النجاح في تحقيق الاستقرار والأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لا يمكن أن يسلك طريقا آخر، بدليل التجارب التاريخية التي مر بها المغرب، إلا سبيل الحوار الحقيقي وتبني سياسة اجتماعية ناجعة لا يتم إقرارها على حساب الفئات المقهورة، وأي شكل آخر من أشكال الإصلاح لن يؤدي إلا إلى رفع منسوب الاحتجاج بشكل عشوائي وغير منظم وزيادة السخط الاجتماعي حولها، ولن تستطيع بعد ذلك إيقاف زحف المحتجين الذين يحركهم الإحساس بالقهر والظلم..

  1. إلى أي حد يؤثر تقويض حق الاحتجاج على الاقتصاد الوطني ؟

إن من بين الأهداف التي تسعى إليها الدولة هي تشجيع الاستثمارات الوطنية وجلب مثيلاتها الأجنبية إلى البلاد من أجل تنمية الاقتصاد الوطني وتطويره وتقويته والنهوض به كي يكون منافسا حقيقيا في الأسواق الدولية، وحتى إذا سلمنا بنجاعة هذا الاختيار فإن تنزيل قانون تنظيمي للإضراب بهذا الشكل المقترح سيشكل عقبة حقيقية لتحقيق ذلك، وهو ما أكده أستاذ القانون بجامعة محمد الخامس بالرباط ورئيس المحكمة الدولية للوساطة والتحكيم د.عبد السلام الإدريسي حيث يقول في استجواب لجريدة « L’opinion » بتاريخ 11 يوليوز 2024: “أولا إن غياب إصلاحات مناسبة قد تؤدي إلى عدم الاستقرار في سوق الشغل. وإن تشريع قانون للإضراب بشكل غير سليم أو رجعي يمكن أن يفاقم من النزاعات بين العمال وأرباب العمل”.

ويستطرد الباحث بأن انتظارات الشغيلة من القانون التنظيمي للإضراب تتركز أساسا على أربعة أوجه حاسمة: الاعتراف بالحقوق النقابية، الحماية من التعسف الذي قد يطال المضربين، عدم تجريم جميع أشكال الإضراب، تنظيم النزاعات الاجتماعية.

وإن ما يؤكد هذا الكلام أن تقرير الخمسينية “المغرب الممكن” المنجز من طرف شبكة من الباحثين والخبراء الوطنيين جاء فيه “يظهر أن العائق الأساسي لاقتصادنا يكمن في غياب محيط مشجع للاستثمار الخاص ولخلق المقاولات والثروات، كما يبدو أن مناخ المعاملات لا يسمح لا بالتوقع والاستباق ولا بإيجاد حل سريع للنزاعات” ص177. ولم يتضمن هذا التقرير، الذي شكل دراسة معمقة لخمسين سنة من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال، أي إشارة إلى تأثير الاحتجاج بشكل عام على الاقتصاد الوطني أو رصد مؤشرات وأرقام تتضمن إضرار إضرابات العمال وعموم الأجراء به، وبالتالي فيمكننا اعتبار أن من بين عوامل صحة مناخ العمل بصفة عامة هي إقرار حقوق الطبقة العاملة كاملة غير منقوصة فيما يتعلق بالحريات النقابية والحق في التنظيم والانتماء وممارسة الإضراب، ما قد يبرهن على تمكينهم من التعبير عن احتياجاتهم المتعلقة بالحقوق المادية والمعنوية ويحفزهم بشكل كبير على الرفع من المردودية وتنمية سوق الشغل ومن ثم الاقتصاد الوطني.

  1. ماذا بعد؟ أو كيف تستطيع الحركات الاجتماعية مواجهة تداعيات تقويض سلطة الاحتجاج ؟

إلى حدود كتابة هذه السطور، لا تزال المفاوضات جارية بين الحكومة والمركزيات النقابية بشأن مشروع القانون التنظيمي للإضراب، ما يفرض علينا خلال هذه المرحلة الدعوة وبقوة إلى ضرورة التصدي له وللمقتضيات المجحفة التي تضمنها مع المطالبة بمضامين تجسد انتظارات الشغيلة التي ذكرناها سابقا، وكذا رفض المصادقة عليه بشتى الطرق الاحتجاجية وأولها الاصطفاف في جبهة وطنية قوية تضم كافة الأحزاب والنقابات والهيئات المدنية والحقوقية من أجل إسقاط هذا المشروع وفرض صوت الطبقة العاملة وإقرار مشروع بديل شامل عادل ومنصف يضمن الحق في الإضراب مع إقرار موازنة بين مصلحة العمال وأرباب العمل والمقاولات عبر سن مقتضيات تفضي إلى فض النزاعات بشكل يقر الحقوق ويحمي الحلقة الأضعف في المعادلة من جميع أشكال التعسف كالطرد أو سلب الحرية أو المس بالحقوق المادية والمعنوية.

من جهة أخرى يمكن أن تطرح سؤالا عميقا ومؤطرا: أي مستقبل للعمل النقابي في المغرب في ظل توالي المخططات المتعاقبة من أجل تقويضه وإضعاف صوت الطبقة العاملة ؟

إن هذا السؤال يدفعنا إلى التأكيد على أن المسؤولية تقع على هذه الهيئات النقابية من أجل تقوية أدائها وفرض وجودها بشكل أكبر من أجل مواجهة أعداء الطبقة العاملة وذلك عبر:

  • العمل على تشكيل جبهة وطنية موحدة تجمع النقابات والأحزاب والهيئات المدنية من أجل مواجهة كل أشكال الترامي على حقوق الطبقة العاملة، وتعميم مبدإ الوحدة والعمل الوحدوي في شتى المجالات التي تمثل الأجراء سواء على المستوى المركزي أو القطاعي.
  • تقوية التنظيمات النقابية عبر توسيع تمثيليتها ودمقرطتها وتخليقها وتثبيت الخط الكفاحي النضالي لدى مناضلاتها ومناضليها والعمل بشكل جاد على تجديد دمائها وإسناد المسؤوليات للشباب فيها.
  • الرفع من مستوى الملفات المطلبية لتشمل السياسات العامة والاستراتيجية للبلاد خصوصا ما كان له علاقة مباشرة بالطبقة العاملة وتشكيل قوة اقتراحية مبادرة عبر إعداد مشاريع بدائل للسياسات الفاشلة التي يتم فرضها، وذلك بالاعتماد على الكفاءات المتخصصة المناضلة وتشجيعها على القيام بالدراسات والأبحاث في هذا المجال.
  • تجديد آليات العمل وتحديثها وفتح المجال للطاقات البشرية المتنوعة والانفتاح عليها.
  • الاهتمام بالتكوين النقابي والعمل على الرفع من مستوى الوعي لدى ممثلي الطبقة العاملة من أجل تمكينهم من ممارسة العمل النضالي بفاعلية أكبر ومعرفة دقيقة بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي التي تعيشه البلاد.
  • إعداد مختلف الدراسات والأبحاث عبر إحداث مراكز متخصصة في ذلك تستطيع بها المنظمات النقابية إحراج لوبي الفساد داخل البلاد وفضحه على المستوى الإعلامي والمؤسساتي مما يشكل حماية وقائية للمصلحة العامة للأجراء.
  • تقوية الإعلام النقابي وتنويعه وتحديثه ليواكب مستجدات وآليات التواصل الاجتماعي وإعداد سياسة تواصلية مستمرة مع الأجراء بهدف إعادة الثقة لهم في العمل النقابي.        

خاتمة:

وأخيرا يمكن القول إن الادعاء الرامي إلى تبرير ضرورة الحد من سلطة الإضراب وضبطه، كونه يؤثر على استمرارية تقديم القطاعات الحيوية لخدماتها ويؤثر على الاقتصاد الوطني، هو ادعاء باطل لا أساس له من الصحة، ونقول في هذا الصدد إن ما يؤثر حقيقة على تنمية القطاعات الحيوية ويعرقل أداءها لمهامها بالشكل المطلوب، هو غياب ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعدم توفير الإمكانيات المادية واللوجيستيكية لها، وفشل السياسات العمومية في تدبيرها والإهمال لآليات التدقيق والرقابة الإدارية، والتغاضي عن ملفات الفساد المالي التي تنخر الميزانيات الهائلة المرصودة لها، والصفقات الكبرى التي لا تراعي المقتضيات والمساطر القانونية، أو تلتف عليها بطرق ملتوية في اتجاه إسنادها لجهات معينة بمقتضى المحسوبية والزبونية، وعدم التزام المسؤولين عنها بمضامين دفاتر التحملات، إلى غير ذلك مما يمكن تصنيفه في خانة المشاكل الحقيقية التي تعاني منها هذه القطاعات الحيوية، وفشل البرامج المتعددة التي ترمي إلى إصلاحها خصوصا ما تعلق ببرنامج النموذج التنموي الجديد ومشروع الدولة الاجتماعية وعدم التمكن من تنزيل توصيات تقرير الخمسينية الذي تم إعداده سنة 2005 وحدد آليات لتجاوز الأزمة التي تعيشها هذه القطاعات، ضمن مشروع “المغرب الممكن” الذي من المنتظر أن تكتمل نتائجه بحلول سنة 2025، والتي لا نرى لها للأسف لحد الآن، أثرا ولا حسا، ونحن على بعد شهور قليلة من اقتراب الموعد المحدد لها.