story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

تعديل مدونة الأسرة والتوجّس من محاولة “الخروج عن المنهجية الملكية”

ص ص

لعل واحدا مما ميّز المغاربة توجههم نحو إدارة بعض اللحظات وتدبير ما تفرزه من قضايا بمنطق توافقي، بعيدا عن نزوعات التقاطب الاجتماعي والغلبة السياسية والتفوّق العددي. الأمر الذي جعلهم ينأون بالسلم المجتمعي والاستقرار الوطني عن كل إرباك أو اضطراب أو تهديد. ولتكريس هذا التوجه، جرت عادة الحكم بالمغرب على أن يُبدي متولي سدّة الحكم حرصه الدائم على تأطير المراحل الحساسة والمصيرية وفق سياسة ترعى التوافقات وتحصن الاجتماع الوطني وتكفل وحدته. ويبدو أن هذا التوجّه الذي أطر السياسة الملكية نابع من إدراك متولي سدّة الحكم بأن أحد أبرز المهام الملقاة على عاتقه، كحاكم وحكم في نفس الوقت، هو النهوض بأمانة التحكيم وحفظ التوازن بين جميع المغاربة، بما يحول دون استقواء البعض على البعض الآخر، بسبب ما يملكونه من سلطة أو ثروة أو نفوذ.

وقد تجلّى هذا الدور الملكي في العديد من اللحظات الحاسمة والانعطافات الحيوية التي شهدتها البلاد، إذ لعبت المؤسسة الملكية دورا مؤطرا وضامنا للعديد من الانتقالات والتحولات، فبهذا المنهج تم تدبير: أ) انتقالات نهاية تسعينات القرن الماضي (الانتقال الديمقراطي التوافقي ما بعد دستور 1996، والانتقال الاجتماعي مع إقرار مدونة الأسرة، والانتقال الثقافي اللغوي ما بعد خطاب أجدير؛ ب) كما انتقالات العهد الجديد (تأمين عبور زمن الحراك العربي واعتماد دستور 2011، وتأطير حوارات وطنية عديدة من قبيل الحوارات حول “الجهوية المتقدمة” أو “تقنين الإجهاض” أو “النموذج التنموي” أو غيرها).

واليوم كما الأمس، بادر ملك البلاد، بمناسبة خطابه للعرش سنة 2022، إلى الدعوة لإطلاق ورش تعديل مدونة الأسرة، بعد مرور قرابة عقدين من الزمن عن إصدارها. وكما أن قيادته لهذا الورش جاءت باعتبار دوره التحكيمي باعتباره ملكا للبلاد ورئيسا للدولة؛ فإنه يتصدى لهذا القانون، تحديدا دون غيره من القوانين العادية وفقا للمسطرة التشريعية، بوصفه أميرا للمؤمنين ومستأمنا على حماية حمى الملة والدين (الفصل 41 من الدستور)، ثم لاعتبار مدونة الأسرة قانونا خاصا بعلاقة زواج قائم على الشرع الإسلامي (الفصل 32 من الدستور).

هذان المبرران، مبرر الدور التحكيمي.. ومبرر حماية الإمارة لحمى الملة والدين، أسّس لعرف دستوري مستجمع لركنيه وشروطه، مفاده أن المبادرة إلى استصدار تشريع في المادة الأسرية أمر يتولاه “الملك الدستوري/وأمير المؤمنين”، بالرغم من أن قوانين الأسرة من حيث المبدأ الدستوري يندرج ضمن مجال القانون وتحت سلطة البرلمان التشريعية (الفصلين 70 و71 من الدستوري). إذ أنه استقر في وجدان المغاربة وأذهانهم الاطمئنان لهذه الممارسة الملكية التي تنأى بوضع قانون الأسرة عن موضع التنافس الحزبي والصراع الإيديولوجي ولموازين القوى السياسية ومتغيراتها الانتخابية.

الواقع أن الرجوع إلى هذا الكلام مردّه الاطلاع على بعض من المخرجات التي انتهت إليها اللجنة المكلفة بإعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة، والتي أثارت العديد من التحفظات والتخوّفات من تجاوز اللجنة لروح المهمّة الملكية الموكولة إليها، والتوجّس من أية محاولة منها “للخروج عن المنهجية الملكية” بتحميل مشروع التعديل أكثر مما طالب به الملك ووجه إليه، أو تجاوز للسقوف والأطر التي حددتها تعليماته السامية. فجاءت هذه المحاولة لمعاودة وتدقيق النظر فيما حمله “خطاب العرش” و”الرسالة الملكية” لرئيس الحكومة من توجيهات وتوضيحات. وهما الوثيقتان اللتان تُعتبران مرجعا لصياغة مشروع التعديل وتوجيها تأطيريا لعمل اللجنة الملكية، وللمبادرة الحكومية عند صياغة مشروع القانون، وللبرلمان عند مدارسة هذا المشروع والمصادقة عليه.

أولا: أعطاب “المدونة” كما جاءت في التشخيص الملكي:
باستنطاق الخطاب الملكي لسنة 2022 المؤطر لمشروع تعديل مدونة الأسرة، يقف المرء عند الإشكالات التي أثارها الملك بصدد المدونة، والتي دعت، حسب جلالته، إلى إطلاق ورش إصلاح التشريع الأسري الوطني، وهي بشكل دقيق وحصري ثلاثة إشكالات:

  • الإشكال الأول: أن المشكل في المدونة لا يعود إلى المدونة، وإنما إلى سوء تنفيذها وعدم تطبيقها التطبيق الصحيح. وهو ما عبر عنه جلالته بالقول: “(…) وإذا كانت مدونة الأسرة قد شكلت قفزة إلى الأمام، فإنها أصبحت غير كافية؛ لأن التجربة أبانت أن هناك عدة عوائق، تقف أمام استكمال هذه المسيرة، وتحول دون تحقيق أهدافها. ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة “.
  • الإشكال الثاني: أن المشكل في تطبيق المدونة مردّه إلى تضخم الوهم بأن مدونة الأسرة هي مدونة للمرأة دون غيرها، وفي ذلك يقول جلالته: “مازالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء. والواقع أن مدونة الأسرة، ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها. فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال.”.
  • الإشكال الثالث: أن المشكل في تطبيق المدونة تتعلق بالإداريين ورجال العدالة الذين لم يستوعبوا أن المدونة هي مدونة للأسرة وليس لمكوناتها أو أطرافها. لذلك، فإن إصلاح تطبيق المدونة، حسب المنطوق الملكي، لا بدّ له من أن ينصب على إصلاح العملين الإداري والقضائي في تنزيل مقتضيات المدونة، وفي ذلك يقول جلالته: “ومن بينها عدم تطبيقها الصحيح، لأسباب سوسيولوجية متعددة، لاسيما أن فئة من الموظفين ورجال العدالة، ما زالوا يعتقدون أن هذه المدونة خاصة بالنساء”.

ثانيا: منطلقات إصلاح المدونة كما هي في المنهجية الملكية

ولأن أهم الإشكالات حسب التشخيص الملكي ارتبط بسوء التطبيق وبعمل رجال الإدارة ورجال القضاء بسبب سوء فهم المدونة ولطبيعتها وللمقصود الجوهري من ورائها، فإن الملك قد أسند قيادة عملية التعديل إلى لجنة تتشكل أساسا من رجاء الإدارة والقضاء ممثلة في: وزارة العدل، والمجلس الأعلى، ورئاسة النيابة العامة، وفقا لما جاء في الرسالة الملكية إلى رئيس الحكومة سنة 2023، بحيث قال جلالته “واعتبارا لمركزية الأبعاد القانونية والقضائية لهذا الموضوع، فقد ارتأينا أن نسند قيادة عملية التعديل، بشكل جماعي ومشترك، لكل من وزارة العدل، والمجلس الأعلى للسلطة القضائية، ورئاسة النيابة العامة”.

  • وقد أوضح عاهل البلاد في خطابه لسنة 2022 ورسالته لرئيس الحكومة، أن عمل اللجنة والحكومة لا بد أن يلتزم بالأطر والمبادئ التالية:
  1. الأطر المقترحة لإصلاح المدونة في التوجيه الملكي:
  • إطار مقاصد الشريعة الإسلامية؛
  • إطار خصوصيات المجتمع المغربي؛
  • والمثير للانتباه أن خطاب الملكي حول المدونة قد تجنب، بالكل والمطلق، الإشارة إلى إطار المواثيق الدولية، وإن أشار إليها إشارة خفيفة في الرسالة الملكية إلى رئيس الحكومة فيما بعد.

2. مبادئ إصلاح المدونة المقترحة في التوجيه الملكي:

    • مبدأ “لا تحريم لحلال، ولا تحليل لحرام”؛
    • مبدأ الاعتدال والاجتهاد المنفتح؛
    • مبدأ التشاور والحوار؛
    • مبدأ إشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.

    ثالثا: نطاقات إصلاح المدونة كما هي في المنهجية الملكية

    الوعي الملكي بأن الإشكاليات التي اعتورت تجربة المدونة هي أساسا إشكالات عملية ومشاكل في التطبيق، جعل الملك يحدد المساحة والنطاق التي يلزم الاشتغال عليها عند تعديلها، حيث أوضح الخطاب الملكي السقوف التي يجب الاشتغال تحتها عند إعداد مشروع المدونة. ومن مقتضيات سقف الإصلاح أنه:

    • إصلاح في التطبيق والأداء، لا إصلاح في المنطلقات والمبادئ؛
    • إصلاح محدود وجزئي، لا إصلاح كلّي وشامل، وهو ما شدّد عليه الخطاب الملكي حين حدد على “مراجعة بعض البنود، التي تم الانحراف بها عن أهدافها، إذا اقتضى الحال ذلك”.
    • إصلاح إداري وقضائي، متعلق بالعملين الإداري والقضائي، بما يجعل منه إصلاحا في التطبيق، وليس إصلاحا لعمق النص وبنيته الشاملة. وهو ما يُفسر سبب تشكّل اللجنة الملكية من رجال الإدارة والقضاء. كما أنه السبب الذي دفع بجلالته إلى أن يقترح أن يتجلى هذا الإصلاح في “تعميم محاكم الأسرة، على كل المناطق، وتمكينها من الموارد البشرية المؤهلة، ومن الوسائل المادية، الكفيلة بأداء مهامها على الوجه المطلوب” (حسب منطوق الخطاب الملكي).
    • إصلاح مسطري وإجرائي، لا إصلاح موضوعي. إصلاح يتوجه، وفقا لما يقول جلالة الملك، إلى “تجاوز بعض العيوب والاختلالات، التي ظهرت عند تطبيقها القضائي، ومواءمة مقتضياتها مع تطور المجتمع المغربي ومتطلبات التنمية المستدامة، وتأمين انسجامها مع التقدم الحاصل في تشريعنا الوطني. (…) وبالتالي، فإن التأهيل المنشود، يجب أن يقتصر على إصلاح الاختلالات التي أظهرها تطبيقها القضائي على مدى حوالي عشرين سنة، وعلى تعديل المقتضيات التي أصبحت متجاوزة بفعل تطور المجتمع المغربي والقوانين الوطنية”. (حسب منطوق الخطاب الملكي).


    على سبيل الختم
    إن القصد من وراء استدعاء الخطاب الملكي لسنة 2022 والرسالة الملكية لسنة 2023، هو الافتراض بأنهما شكلا مرجعين أساسيين لتأطير هذا الورش، وأن اللجنة الملكية والحكومة معنيتان بالالتزام بالبواعث والمنطلقات والنطاقات التي استند إليها جلالة الملك عند دعوته لإصلاح مدونة الأسرة. وعلى القائمين على تدبير الشأن الحكومي اليوم الوعي بأن الانخراط الكبير لمختلف مكونات وهيئات المجتمع المغربي في هذا الورش مردّه إلى حالة الاطمئنان الذي استشعره الجميع بفضل القيادة والتأطير الملكيين لهذه المبادرة الإصلاحية الواعدة.

    لذلك، فالحكومة مستأمنة اليوم على ترجمة معالم ومقتضيات هذه المنهجية الملكية، خاصة عند تحويل المشروع إلى نص قانوني وإلباسه اللبوس التشريعي المناسب. وذلك من دون تجاوز للسقوف والحدود أو تغافل للمنطلقات والقصود التي وضعها جلالة الملك مسبقا. وأن حياد الحكومة عن هذه السياسة وهذا النهج يُعتبر من جهتها “خروجا عن المنهجية الملكية”، ورجوعا بالنقاش إلى نقطة الصفر.

    *محمد الطويل