تطبيع الموتى
شيء ما غير سليم في الوضع الذي يعيشه المغرب حاليا. هذه المسيرات والوقفات والاحتجاجات اليومية، في العاصمة الرباط كما في باقي المدن والجهات، المطالبة بتراجع المغرب عن اتفاق استئناف العلاقات الرسمية مع إسرائيل، ينبغي أن تجد صدى لدى المسؤولين وأصحاب القرار، سواء بالقبول والاستجابة، أو بالرفض والاعتراض. كلاهما تفاعل ممكن ووارد وقابل للتبرير، وحده هذا الصمت يجعلنا في موقف “شوارها ما دير برأيها” المأثور.
ما معنى ارتفاع كل هذه الأصوات في الشارع وبشكل يومي دون أن يخرج سياسي أو تكنوقراطي، للي جاب الله، للتفاعل والنقاش؟
معنى واحد يفرض نفسه: التنفيس عن الغضب وامتصاص المشاعر السلبية التي يولدها العدوان الإسرائيلي ورائحة الموت التي نكاد نشتمها من تحت الأنقاض ومخلفات الدمار، في انتظار مرور العاصفة وبالتالي الربح على الواجهتين: ربح داخلي بكسب نقط في مؤشر حرية الرأي والتعبير وحرية التظاهر، والربح خارجيا بعدم الاصطدام أو إثارة غضب أي طرف.
قد يبدو هذا الحساب شطارة في عين البعض، لكنه ينطوي على خطورة “المشطّر” الذي يتعشى مرتين. في السياسة كما الدبلوماسية هناك حد أدنى ضروري من حسم الاختيارات والمواقف.
الواقعية والبراغماتية لا تعنيان بالضرورة اللعب على جميع الحبال. هذا فن صعب يقال له “السيرك”، ونادرا ما يفلح أمهر المحترفين في اللعب على أكثر من حبل واحد.
هناك صورتان متناقضتان: داخل يغلي ويحتج مطالبا بالتراجع عن خطوة “التطبيع”، وهي المطالب التي كان بالإمكان ارضاؤها بنصف استجابة، أي بأدنى قدر من التعبير عن التجاوب مع أصوات الشارع والتراجع خطوة ولو صغيرة إلى الوراء، وخارج يؤكد ألا نية ولا استعداد بتاتا للقيام بأية مراجعة للموقف الرسمي.
الصحف الإسرائيلية تطلعنا بشكل شبه يومي عن مزاج صناع ومنفذي القرار لدينا في المغرب، وخلاصة هذه الأنباء ألا وجود لأي مؤشر لمراجعة اتفاق دجنبر 2020. ومن أراد النبأ اليقين عليه أن يوجه نظره شطر واشنطن، هناك حيث بات مسطرا أسود فوق أبيض أن تطبيع مجموعة من الدول العربية، من بينها المغرب، في إطار ما يسمونه هناك “اتفاقات ابراهام”، مصلحة أمريكية.
أدرج الكونغرس ضمن وثائق ميزانية العام الحالي بندا يلزم الإدارة الأمريكية بتقديم تقييم مفصل لانعكاسات هذه الاتفاقات على الأمن القومي الأمريكي، وتحديدا على حصاد الاستخبارات الأمريكية من المعلومات المفيدة. أي أن الموضوع أكبر من مجرد “تطبيع”، هو بند صغير في ملفات أكبر وأضخم يصعب أن نتخيل قدرتنا على التأثير فيها لوحدنا.
المنطق الديمقراطي يفترض التجاوب والنزول عند رأي المواطنين ودافعي الضرائب، وإن لم يكن بالإمكان ذلك، فعلى الأقل التفاعل والتفسير والنقاش. لا يمكن أن نطبع مع هذا التناقض الحاد بين الدولة والمجتمع، خاصة أن الدولة باتت تفتقد للواجهة الديمقراطية التي يمكنها أن تصد الصدمات.
لابد من بناء موقف الدولة من جديد في مقابل التعبيرات الصريحة للمجتمع. قد تكون هناك مصلحة أو مصالح تتحقق كليا أو جزئيا عبر صيغة معينة أو جرعة موزونة مما يقال له التطبيع، لكن الدول لا تعيش بالمصالح وللمصالح فقط. اللحمة والتماسك الداخليان أهم وأبقى، ولا أحد يخيّر الدولة بين هذه وتلك. التدبير هو أيضا فن إنتاج المعادلات الكيميائية المناسبة، قطرة من هذا وأخرى من ذاك.
وضع مختلف كليا أنتجه “طوفان الأقصى” وما تلاه من عدوان إسرائيلي على غزة مقارنة بلحظة توقيع الاتفاق الثلاثي. حالة الصمت والذهول التي أصيب بها المجتمع المغربي تحت وقع صدمة التوقيع على هذا الاتفاق أصبحت خلف ظهورنا، والقوى الحية التي أشار إليها الديوان الملكي في معرض تفاعله وتجاوبه المحمود مع نقاش سياسي شهدته الساحة سابقا، باتت تعبر بوضوح عن موقف صريح وفي الشارع العام.
البلاغات الرسمية التي أصدرتها الدولة بشأن الاتفاق الثلاثي تقف فوق ركيزتين أساسيتين: الأولى هي عدم التفريط في القضية الفلسطينية أو الإضرار بها، والثانية وجود تزكية وسند مفترضين من جانب “القوى الحية”.
أخشى أن الوضعية الحالية تفتقد لأي منهما.
لا يمكن الاعتقاد أو القول إننا لا نضر الفلسطينيين وقضيتهم باستمرار علاقاتنا على حالها كأن طفلا واحدا لم يقتل بالقنابل الإسرائيلية. وإذا كان هناك من يعتقد أن مجرد عدم الرضوخ للضغوط الأمريكية لإدانة حماس أو تأييد إسرائيل هو دعم للقضية الفلسطينيين، فكأنه يعتبر المغاربة موتى. هؤلاء الذين يرقدون في القبور لا يدينون حماس ولا يدعمون إسرائيل، هل يعقل أن يقنع المغاربة بدور الموتى؟
أما مسألة موافقة “القوى الحية” فهي عقدة القصة. لم تكن الدولة المغربية يوما تتصرف في الواجهة الخارجية مفصولة أو منعزلة عن شعبها. وهذا التناقض الذي صرنا نطبع معه تدريجيا، بين شارع غاضب وقرار جامد، يتغذى بالضرورة على رصيد المؤسسة الملكية، وهنا يجب رفع لافتة “انتباه، منعرج خطير”.
لسنا في ديمقراطية مكتملة، وما من عاقل ولا موضوعي يعتقد أن حزب العدالة والتنمية الذي تولى زعيمه توقيع الاتفاق الثلاثي باسم الدولة المغربية، بوصفه رئيسا للحكومة، هو الذي قرر “التطبيع”. ولا يعقل أن يعود هذا العاقل نفسه ليحاسب أو يسائل حزب التجمع الوطني للأحرار وأغلبيته الثلاثية، عن عدم التجاوب أو التفاعل مع صوت الشارع.
لا حزب ذو قاعدة حقيقية وقدرة على الحجاج والمجادلة في قمرة القيادة اليوم، كما كان الحال في 2020. ومن يعتقد أن الموجة ستمر لنجد أنفسنا في النهاية قد ربحنا كل شيء، في الداخل والخارج. لا يدرك أننا سنجد أنفسنا في وضعية شرخ غير حميد بين الدولة والمجتمع.
قرار التوقيع ثم تعديله أو تجميدُه يتجاوز الأحزاب السياسية ويدخل بنص الدستور وروحه في المجال الملكي. هنا في هذا المستوى يجب أن يتموقع الموضوع ويناقش ويفكّر فيه، دون تغافل ولا دس للرؤوس في الرمال.
وبقدر أهمية التوازن في تدبير العلاقات الخارجية لحماية المصالح الوطنية ومعها جعل المؤسسة الملكية في مأمن من أي استهداف أو تآمر خارجي، باعتبارها ركيزة الدولة المغربية وعمادها، فإن هذه المصلحة الوطنية نفسها لا تنفصل بتاتا عن مراعاة المشاعر والمواقف والاختيارات الشعبية.
من يحب المغرب ويحب دولته وملكه عليه أن ينصت بأذنين: واحدة تلتقط أصوات الشارع، وأخرى موجهة نحو أصوات الواقعية والمصالح والتوانات الخارجية. وسواء مال القرار نحو هذه الأذن أو الأخرى، فإن ذلك يبقى أفضل من “تطبيع الموتى”، وتحويل احتجاجات الشارع إلى مشهد فلكلوري، أو صوت لا صدى له، لأن هذه الطاقة التي تتجلى اليوم في الشارع، قد تتحوّل إلى طاقة سلبية بفعل التجاهل.