story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

تركيا تدق جدار البرميل

ص ص

يقال عند المغاربة إن السياسة “كاتحنّت”، والحقيقة أن هذا “الحنت”: لا يحصل إلا عندما يتعلّق الأمر بمواقف واختيارات انتهازية أو مصلحية، غير مبدئية ولا أصيلة.
هذا ما يحصل اليوم عبر تركيا التي أعلنت قطع علاقاتها مع إسرائيل، ل”تحنّت” في الوقت نفسه وبحجر واحد، كلا من متّهمي المغاربة المتضامنين مع فلسطين وقضيتها العادلة ب”القومجية”، بما أن القومية العربية لم تولد إلا لتكون ضد تركيا العثمانية، ومعهم الذين يزعمون أن تشابك المصالح وتناميها مع الغرب وقائدته أمريكا، يجعل أي تراجع في العلاقات مع إسرائيل ضربا من المستحيل.
بعد أسابيع من الغموض الذي خيّم على العلاقات التركية الإسرائيلية، خرج هذا الأسبوع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ليعلن وبشكل رسمي قطع علاقات بلاده من إسرائيل، بما في ذلك العلاقات التجارية التي كانت وإلى وقت قريب، آخر ما تبقى في علاقات رسمية كاملة بين الجانبين.
برّر الرئيس التركي هذا القرار بالعدوان الإسرائيلي على كل من غزة وجنوب لبنان، وهو ما يملك الجميع حق تصديقه كما تكذيبه، خاصة أن هذا العنوان مستمرّ منذ شهور، كما أن هذا الخطاب الأخلاقي والمبدئي لم يعد يستهوي بعض المتيّمين بحبّ دولة الاحتلال الصهيوني لفلسطين.
لا أميل شخصيا إلى مثل هذه الخطابات لفهم أو تفسير سلوك الدول، لأنها، بمن فيها تلك الأكثر ديمقراطية واحتراما لإرادة شعوبها، كثيرا ما تتصرّف وفقا لحسابات واعتبارات أخرى، ترتبط بأمنها واستقرارها ومصالحها… وهذا بالضبط ما يحصل مع تركيا اليوم.
هذه الأخيرة التي تعتبر بعيدة جغرافيا عن فلسطين والحدود الدولية، وفقا لمنظمة الأمم المتحدة، لدولة إسرائيل، والمحمية بحاجز عربي يحول بينها وبين هذا الكيان… وجدت نفسها فجأة أمام تهديد مباشر لأراضيها ووحدتها واستقرارها، بعدما كشف القادة المتطرفون لدولة إسرائيل بشكل صريح وسافر، عن رغبتهم في الانتقال إلي مرحلة جديدة من مشروعهم السرطاني، بتوسيع حدود كيانهم ليشمل المجال الترابي لما يسمّونه بإسرائيل الكبرى، والذي يعني من بين ما يعنيه احتلال مجال واسع يمتد من لبنان إلى تركيا مرورا بسوريا والعراق، مع ما يتطلّبه ذلك من خلط للأوراق وزرع للاضطرابات والحروب، وعلى رأسها تحريك الورقة الكردية النائمة، لطعن تركيا في الظهر وتركيعها وإجبارها على الاستسلام لهذا المشروع التوسّعي في المنطقة.
نعم، هذه تركيا العلمانية والمنخرطة منذ قرن في المنظومة الحضارية الغربية، والعضو الكامل في حلف شمال الأطلسي، تجد نفسها اليوم أمام تهديد مباشر لكيان ما زال البعض يصرّ على أنه واحة للديمقراطية ومنبع للسلم والتعايش في قلب المنطقة، لا يهدّده سوى تخلّف وتوحّش العرب المحيطين به.
هناك أحداث ومصادفات تلاقي الإنسان في مسار حياته فتطبع فكره ووجدانه. وبعيدا عن خطاب نظرية المؤامرة والتهويل الذي قد يسقط فيه البعض، لا أستطيع شخصيا أن أنسى تلك اللحظة التي كنت فيها قبل أزيد من 11 عاما، أسير في أحد شوارع مانهاتن في نيويورك، متوجها نحو مقر الأمم المتحدة حيث كانت تنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة لسنة 2013، ليستوقفني رسم لخريطة المنطقة العربية يتربع في صدر الصفحة الأولى لجريدة “نيويورك تايمز” المعروضة في واجهة أحد الأكشاك.
انحنيت يومها على الجريدة، واقتنيتها، لأطالع المقال الذي يحمل عنوان “لنتخيّل مراجعة خريطة الشرق الأوسط”، بتوقيع الباحث الأمريكي الشهير روبين رايت، المتخصص في العالم الإسلامي ومؤلف كتاب “الغضب والتمرد في العالم الإسلامي”.
أرفقت الصحيفة ذلك المقال بخرائط توضّح كيفية احتمال تقسيم كل من ليبيا والمملكة العربية السعودية وسوريا واليمن والعراق، وميلاد تسع دول جديدة في هذه الرقعة الممتدة من غرب العالم العربي إلى شرقه.
قال كاتب إن الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية في السنوات الأخيرة (يشير إلى الربيع العربي) قد تكون عاملا ممهدا لانشطار عدد من الدول وتقسيمها إلى دويلات، مضيفا أن الحرب التي تشهدها سوريا ستكون نقطة تحول في هذا المسار.
وأضاف الباحث الامريكي عبر الجريدة النيويوركية المؤثرة، أن العامل الحاسم في تحديد الخريطة المقبلة للمنطقة العربية، سيكون هو إعادة النظر في التوازنات الدولية واتفاقات القوى الكبرى.
وجعل روبين رايت سوريا على رأس الدول العربية المرشحة للتقسيم إلى عدة دول، مبررا ذلك بتناقضاتها الداخلية وتعدديتها الدينية والمذهبية والعرقية، واستدل الباحث الامريكي على هذه الإمكانية بالانقلابات التي شهدتها سوريا بعد استقلالها عن فرنسا.
وأضاف روبين رايت أن الربيع العربي لم يأت فقط لإسقاط الحكّام الدكتاتوريين، بل لأن مجموعات بشرية في المنطقة تتطلّع إلى التخلص من حكم مركزي لا ينسجم مع هويتها، والتمكن من استغلال ثرواتها الطبيعية بشكل مباشر.
أعرف أن الذين يشهرون ورقة “القومجية” في وجه المصرّين على موقفهم الإنساني والحضاري السليم تجاه القضية الفلسطينية، يستطيعون إنتاج ما لا نهاية له من المقولات والمفاهيم التي تنكر الواقع السرطاني لدولة إسرائيل في المنطقة، وأقلها الدفع بورقة الموقع الجغرافي الذي يجعلنا، كما يتوهّمون، في منأى من هذه المشاريع المثيرة للحروب والفتن.
هؤلاء لا ذاكرة لهم ولا مصلحة لهم في استحضار الأمس القريب، حين كان المشروع الاستعماري الغربي يفكّك أسس الامبراطوريتين، المغربية والعثمانية، في آن واحد، فيشتغل على إحداهما بيده اليمنى بينما تعالج يسراه الدولة الأخرى، حتى تمكّنت هذه القوى من إخضاعهما بشكل يكاد يكون متزامنا، خاصة عندما كان آخر السلاطين المقاومين في الشرق، السلطان عبد الحميد، يعزل في سنة 1908، في الوقت نفسه الذي تحرّكت البوارج والآليات العسكرية الفرنسية لاحتلال أجزاء من شرق المغرب وغربه تمهيدا للسيطرة عليه عبر معاهدة الحماية.
من لا يريد اليوم أن ينظر إلى الأحداث الجيوسياسية في سياق هذا التطوّر التاريخي الذي لم يحصل حتى الآن ما يحمل على الاعتقاد بانقطاعه، لا يريد في حقيقة الأمر سوى استدراجنا، على افتراض حسن نيته، نحو حالة أنكار نفسي، إلى أن نستيقظ يوما على أخبار سقوطنا من جديد، لا قدّر الله، في فخّ التفكّك والاضطراب والتقهقر، بدل التطلّع نحو مستقبل زاهر ومتطوّر.
ما نعيشه اليوم هو استمرار لتنزيل صفقة بين طرفين: الأول هو المشروع الصهيوني الساعي لحل مشكلة اليهود الذين اضطهدوا في الغرب المسيحي على مدى قرون، والثاني هو القوى الغربية التي كانت تقودها بريطانيا وسلّمت المشعل لاحقا لأمريكا، والذي قايض دعمه للمشروع الصهيوني باشتراطه نقل موقع تنفيذ حلم الدولة من الأرجنتين إلى فلسطين، بمهمة أساسية ومحورية: منع نهوض العالم الإسلامي من جديد من أية نقطة حاول الانطلاق منها، سواء كانت في المغرب أو في المشرق.
في ندوة حضرتها قبل يومين من تنظيم مجموعة العمل الوطنية من أجل فلسطين، جرى حوار ثنائي قصير بين الصديق عزيز هناوي والزميل سليمان الريسوني حول ضحايا برميل غسان كنفاني في روايته “رجال في الشمس”، وما إن كان موتهم قدر محتوم أم قرار من كنفاني نفسه حين منعهم من طرق جدار البرميل…
ها هي تركيا اليوم تدقّ جدار البرميل.. فهل ننجو؟