ترامب والصحراء.. عن منطق الدولة المغربية

قطف المغرب هذا الأسبوع موقفاً أمريكياً متجدّدا حول الصحراء. جدّدت واشنطن اعترافها بالسيادة المغربية على المنطقة، ودعمها لـ”مقترح الحكم الذاتي الجاد والموثوق والواقعي، باعتباره الأساس الوحيد لحل عادل ودائم للنزاع”. وزير الخارجية الأمريكية ماركو روبيو نقل، عقب لقائه نظيره المغربي ناصر بوريطة في واشنطن، حثّ الرئيس دونالد ترامب على “الانخراط في مناقشات دون تأخير باستخدام مقترح الحكم الذاتي المغربي كإطار وحيد للتفاوض على حل مقبول للطرفين”.
هذا الموقف يريح المغرب، الذي تصرّف بهدوء منذ خسر ترامب الانتخابات في 2020 وعودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض. حافظت الرباط على موقف الجمهوري ترامب خلال ولاية الديمقراطي جو بايدن، لكنها لم تحقّق اختراقاً في تنزيل كل ما جرى الاتفاق عليه. ومنذ عودة ترامب، بكل تلك الاندفاعة، وتصرّفه بمنطقٍ صدامي يربك العالم، ساد الترقب بشأن مآل اتفاقات 10 دجنبر 2020، وما إذا كانت حقيبة ترامب تحتوي اشتراطات جديدة قد تطرحها واشنطن على الرباط.
منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، حافظ المغرب أيضا على “هدوئه” في سياقٍ عاصفٍ في واشنطن والعالم، في انتظار اللحظة المناسبة لتجديد أمريكا التزاماتها. وكذلك كان.
المغرب نجح في تحصين المكسب الذي تحقّق في 2020 رغم كل التحديثات المطروحة عليه، والنقاش الداخلي بشأن “أخلاقية” الاتفاق بسبب وجود إسرائيل طرفاً فيه. ومع ذلك، يبدو أن تكريس الرباط لصورتها دولةً تلتزم باتفاقاتها كان بمفاعيلَ نحو صمود الاتفاق الثلاثي، الذي يعني المغربَ فيه موقفُ واشنطن، ويظهر استئناف العلاقة مع دولة الاحتلال ثمناً أدته الرباط، دون أن يعني ذلك جبايته من حقوق الفلسطينيين.
إننا بإزاء حِسْبَةٍ دقيقة تجريها الرباط، إلى الآن، بكثير من الهدوء، محدداتها، في اعتقادي، في التالي:
ـ التزام الدولة المغربية باتفاق 10 ديسمبر 2020 واستمرارها في العلاقات مع إسرائيل رغم كل الضغط الداخلي لوقف التطبيع.
ـ صيانة مكسب الاعتراف الأمريكي بالسيادة المغربية على الصحراء، وجعله موقفاً عابراً للإدارات في البيت الأبيض، من خلال عدم التورط في الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين، ولذلك جرى تدبير ولاية بايدن بدون خسائر دبلوماسية.
ـ الحفاظ على سلامة الموقف، الشعبي والرسمي، من القضية الفلسطينية، التزاماً بتعهّد ملكي، إذ حرص الملك على الاتصال الشخصي برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في نفس يوم الإعلان عن استئناف العلاقات مع إسرائيل، حيث أكد له أن موقف المغرب الداعم الفلسطينيين “ثابت لا يتغير”.
ـ إفساح المجال للمواطنين والقوى السياسية في المغرب للتعبير عن مطلق دعمهم للحق الفلسطيني، وتبليغ رسالة واضحة سبق أن كتبناها في هذا الحيّز، واتّضحت مع الوقت: المغرب يعتبر، إلى حدود الآن، تطبيع الدولة مع إسرائيل شأنَ دولٍ، ولا يُلزم مواطنيه الانخراطَ في تطبيع يجاري أو يتجاوز سقف الدولة، المعنية أساسا بصيانة مصالح الوطن الحيوية، حتى وإن اختلفت مع جزءٍ من المواطنين في تقدير المصلحة في هذا الموضوع. والمسيرات والفعاليات غير المنقطعة في المغرب تضامنا مع فلسطين، منذ 7 أكتوبر 2023، دليلٌ على هذا، وتأكيد لمؤكدٍ حاول فريق “كلنا إسرائيليون” خرقه، ولقيَ جوابه من المجتمع، حيث جرى تحجيمه إلى حالته الطبيعية كرأي معزول وشاذٍ لا امتدادَ مجتمعيَ له.
ـ تدبير العلاقة مع إسرائيل على قاعدة “هاته بتلك” و”خطوة بخطوة”، بحيث لم نشهد وقفاً للاتفاق، لكن دون هرولة، وبتناسب تراها الدولة “معقولا”. كما لم يخضع المغرب لاستراتيجية الابتزاز التي حاولت إسرائيل تفعيلها أكثر من مرّة، عبر تحويل اتفاق استئناف اتفاق العلاقات إلى قيْدٍ في رِجل الرباط، وأداة في يد نتنياهو تستعمل قضية الصحراء للابتزاز.
ـ اعتبار التخاطب مع الجزائر في هذه المرحلة غير مفيد وغير منتجٍ، لهذا وجّه المغرب موارده إلى المكان الصحيح، وترك الجارة الشرقية في وضعية “رد الفعل”. ثم إنّ الوضع الميداني ما بعد أزمة معبر الكركرات تغيّر لصالح الرباط. وأيضا، من خلال اعتبار قرار قطع العلاقات الدبلوماسية قراراً جزائريا “سياديا” منع المغرب تحويله إلى عبء عليه، بحيث جرى وضعه في نطاقه وتكريس الدولة المبادِرة إلى قطع العلاقات مسؤولةً وحيدةً عن تداعياته، خاصة أن المغرب تعامل بهدوء أقرب إلى التجاهل، ولم يختر طريق “المعاملة بالمثل” والتصعيد، ليبقى بذلك طريقُ التراجع، حصراً، مسؤوليةً جزائريةً.
وإن تجديد واشنطن لدعمها للحق المغربي في الصحراء سيكون بمفاعيل داعمة ودافعة للطرح المغربي، بما يقرّب من محاصرة نزوع الانفصال لدى جبهة البوليساريو، ويفسد خطط داعمي الانفصال في الجزائر، بمزيد من إضعاف موقفها الدبلوماسي.
وإنّ توقّع تحصيل المغرب مكاسبَ جديدة فيما يُستقبل من أشهر وسنوات يأتي “قياسا على شاهد” ما جرى بعد 2020. ويكتسي تجديد واشنطن موقفها أهميته من الثقل الدولي الذي تتمتع به، وتأثيرها الواسع. ولا يمكن أن نستبعد تأثير موقف الإدارة الأمريكية في 2020 على الديناميات التي حصلت تالياً. فمثلا، الإعلان المشترك المصادق عليه في 7 أبريل 2022، خلال اللقاء بين الملك محمد السادس ورئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز، والذي نص على أن “إسبانيا تعتبر المبادرة المغربية للحكم الذاتي الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية لتسوية نزاع الصحراء”، يمكن أن يُحصى ضمن الآثار المترتبة عن الموقف الجديد لواشنطن.
وأيضا، رسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في يوليوز 2024، إلى الملك محمد السادس، والتي تؤكد على أن فرنسا “تعترف بمخطط المغرب بخصوص الحكم الذاتي لمنطقة الصحراء الغربية كأساس وحيد للتوصل إلى حل سياسي”، جزءٌ من لعبة الدومينو الجارية منذ إعلان ترامب اعترافه بالسيادة المغربية على الصحراء. كذلك، إعلان وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، في بيان مشترك مع نظيرها المغربي، في غشت 2022، أن مقترح الحكم الذاتي “قاعدة جيدة” لحل نزاع الصحراء، خاصة أنه أتى بعد الأزمة التي أشعلها انتقاد برلين لاعتراف واشنطن بالسيادة المغربية.
هذا في الماضي. الآن، ستنطلق ديناميات جديدة مدفوعة بالموقف الأميركي المتجدّد، والذي شدّد على دعم جديد وواضحٍ لمقترح الحكم الذاتي، مع إضافة تدقيق على المضمون سيترتب عليه أثرٌ، من خلال الحديث عن “الحكم الذاتي الحقيقي في ظل السيادة المغربية”. وتبدو كلمة “الحقيقي” إضافةً نوعيةً للموقف، تعني المغرب أساسا، نحو إنضاج أفكار أكثر تفصيلا وواقعية، تجسّد معنى الحكم الذاتي الحقيقي، وتقدّم ضمانات لممارسة الحكم الذاتي فعلياً، في العلاقة بالدولة المركزية.
ولعلّ هذا تحديدا ما سيفتح الطريق، مثلا، نحو إعادة تقييم الموقف البريطاني، حيث يُرصد تململ في لندن نحو الاقتراب من الموقف الأمريكي، أو في الحد الأدنى نحو موقف باريس وبرلين ومدريد. وفي هذا السياق يكون مفيداً الاطلاع على حديث وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، في 1 أبريل الجاري، في غرفة العموم البريطاني، عن وجود محادثات مستمرة مع “الأصدقاء المغاربة”، مع التأكيد على أن “الموقف البريطاني ( من قضية الصحراء) لم يتغير، لكنه يبقى قيد المراجعة”.
وإنه منذ لحظة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتحرّرها من قيودٍ سياسية يفرضها التزامها الأوروبي، تعمّقت شراكاتها مع المغرب، ضمن خليطٍ من المصالح، الاقتصادية أساسا، وأيضا مستجدُ الموقف الأمريكي، وتاليا مواقف كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا، وستكون كلها عوامل دافعة نحو “مراجعة” لندن، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، لموقفها بما ينسجم مع التحولات الاستراتيجية في المشهد، مضافا إليها آثار إرساء الملك محمد السادس لقاعدة أن “ملف الصحراء المغربية هو النظارة التي ينظر منها المغرب إلى العالم، وهو المعيار الواضح والبسيط الذي يقيس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات”.
الجزائر، التي تستنسخ “نظّارات المغرب” بشكل ركيك يرهن مقدرات شعبها ومصالحه للانفعالات والتعطيل المتأتي من الدفاع عن قضية خطأ، أمام موقف أمريكي متجدّد وممتد الأثر منذ 2020، ويفترض أن يلقى صدىً في قصر المرادية، خاصة أن حكّام الجزائر لم يتأخروا في اتخاذ مواقف انفعالية ضد كل من فرنسا وإسبانيا مثلا عقب دعمهما لمقترح الحكم الذاتي، لكنهم كانوا أقلّ جموحاً في التعامل مع نتائج اجتماع بوريطة ـ روبيو، واكتفوا ببلاغ مرّ دون آثار، وأقرب لـ”رفْع العتب” أمام وكلائهم في جبهة الانفصال.
إن الجزائر، التي تعيش فقراً في التفكير الاستراتيجي وانحسارا وانسدادا في ترتيب الموقف بشأن المستجدات المتلاحقة في قضية الصحراء، تجد نفسها، بعد الاعتراف الأمريكي، في مشهد يُصعِّب تحصين وضعها العدائي ضد الوحدة الترابية للمغرب، ويكرس موقعها الصدامي في مواجهة متغيّرات دولية تتفاعل بسرعة دعماً للطرح المغربي.
قصارى القول
وأنا أكتب عن المكسب المهم الذي حقّقه المغرب خارجياً، تغرق الأرجل داخليا في الفضائح. نحصي من بينها اثنين بمفاعيل الزلزال السياسي. الأول ارتبط بالهجوم السيبراني الذي تعرض له الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي ومؤسسات أخرى، إذ جرى تسريبات ملايين المعطيات الشخصية والحساسة، بما أكد فشلا ذريعاً في حمايات بيانات مهمة للمواطنين، الذين وجدوا أنفسهم مكشوفين وبدون حماية، وأيضا أمام حقائق التفاوتات الهائلة في الأجور. وبدل أن يحمي الصندوق البيانات الشخصية المُسْتأمَن عليها، ثم تقديم الأجوبة عن الاختراق وحدوده، وما يقوم به لمحاصرة تداعياته، وجد المواطنون/ الضحايا أنفسهم عُرضة للتهديد بالمتابعات القضائية لمن يتعامل مع هذه الوثائق المسرّبة. وفعلا، ومثلما يُنكّثُ ظرفاء: “اللي عولنا عليه يدير لينا الضمان الاجتماعي ما ضامن تا أمن البيانات ديالنا”.
أما الفضيحة الثانية، فترتبط بإصرار الائتلاف الحكومي على إجهاض مبادرة المعارضة البرلمانية إلى تشكيل لجنة تقصّي حقائق بشأن أموال الدعم والإعفاءات الضريبية التي أقرتها حكومة عزيز أخنوش لفائدة مستوردي المواشي، وسعيه إلى الاكتفاء بمهمة استطلاعية. والفروق الهائلة بين لجنة تقصي الحقائق والمهمة الاستطلاعية تُظهر الائتلاف الحكمي في صورة من يحاول التستّر على السارق، بعدما ظهر المسروق على شكل غلاءٍ فاحش وفساد مستطير محميٍّ سياساً، ولا تنفع معه “موعظة” الاستقلاليين المُسيّسة عن “اتقوا الله في المغاربة”، قبل أن يصطفوا إلى جانب الجشعين والفاسدين في رفض لجنة تقصّي الحقائق.
مغربان في أسبوع، بين نجاح وسقوط. كحالنا دوماً.