ترامب عميلاً روسياً

أكثرت الإدارة الاميركية في الأيام الأخيرة من خرجات نفي أن تكون سياسات ترامب الخارجية تخدم بوتين وروسيا. والنفي يستبطن شعورا بأن كثيرين بدأوا يشكّون ويتّهمون ويفحصون مآلات سياسات عدوانية اتجاه العالم كله، تتحول هادئةً أمام موسكو.
في أمريكا لا يتردد الفكاهيون في السخرية من ترامب، منذ ولايته الأولى، عن علاقته “المشتبه فيها” بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورسيا، وكان بعضهم يستهزئ في نوع من الخبث: (أخبرنا بما يمسكه عليك بوتين، وسنساعدك).
ترامب بتعبير كثير من رموز الحزب الديمقراطي “دمية في يد بوتين”، وعلى لسان مدير سابق للمخابرات الأمريكية (شديد التحفظ بما يجب قوله): “ترامب يخاف من بوتين”. وبلغة إعلاميين وكثير من التسريبات والتقارير: ترامب عميل لروسيا.
ليلة ارتكب ترامب ونائبه جيه دي فانس المجزرة الدبلوماسية في البيت الأبيض بحق الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وطردوه من البيت الأبيض، انطلقت عاصفة من الانتقاد ضداً في “اللعب المكشوف” الذي يؤديه ترامب لصالح بوتين. اتهم زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشاك شومر ترامب ونائبه دي فانس بأداء “عمل قذر” لحساب الرئيس الروسي. وقال زعيم الديمقراطيين بمجلس النواب حكيم جيفرز إن “الاجتماع مع زيلنسكي كان مروعاً وسيشجع بوتين أكثر”، وأكد السيناتور كريس ميرفي أن “ما حدث في المكتب البيضاوي كان كميناً مخططاً له من أجل مساعدة ديكتاتور روسي وحشي”، وأن ترامب “أصبح خاضعاً لبوتين”. كما قالت السيناتور باتي مواري إن ترامب يثبت مراراً وتكراراً أنه “أحمق مفيد لبوتين”. أما السيناتور مارك كيلي فذكر أن ما حدث “فوضى كاملة” و”هدية لبوتين”. النائب الديمقراطي غريغوري ميكس بدوره أكد أن “ترامب كان يتصرف مثل زعيم المافيا”. وذكر النائب سيث مولتون أن “ترامب يريد التنازل عن أوروبا لروسيا، والتنازل عن آسيا للصين”.
يوم 16 يوليو من عام 2018، خلال اجتماع بوتين وترامب في هلسنكي، عاصمة فنلندا، كان الرئيس الأمريكي شديد التودّد للرئيس الروسي وأظهر استسلامية مفرطة. حينها دُقّت الكثير من نواقيس التحذير بشأن الذي يجري، وانطلقت في القنوات التلفزية والصحف أحاديث كانت مكتومة. المدير السابق للمخابرات المركزية الأمريكية جون برينان قال إن “أداء دونالد ترامب في المؤتمر الصحفي في هلسنكي يرتفع ويتجاوز حدّ الجريمة الكبرى والإثم. لم يكن هذا أقل من الخيانة.. كان بأكمله في جيب بوتين”. يومها، مسح ترامب الأرض بالاستخبارات الأمريكية وهو يقول أمام بوتين إنه لا يثق في تقييمها بشأن محاولات موسكو التدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية. كلامه كان زلزالا هزّ واشنطن ودوائر الاستخبارات، وكل العواصم المعنية. وعند عودته إلى واشنطن، نظّم له البيت الأبيض مؤتمرا صحافيا عند سلّم الطائرة ليستدرك. لكنه كان قد وقع في المحظور، وهو يدافع عن بوتين وروسيا ويكذّب واحدة من أكثر المؤسسات الأميركية قوّة.
بعد كلامه في هلسينكي، هاجمت السياسية الأميركية البارزة نانسي بيلوسي ترامب، وكتبت: “في كل يوم أسأل نفسي: ما الذي يمسكه الروس على دونالد ترامب شخصيا، هل هي أمور مالية أم سياسية؟ والإجابة على هذا السؤال هي الشيء الوحيد الذي يفسر سلوكه ورفضه للوقوف أمام بوتين”.
سبق للعميل السابق في الاستخبارات الروسية (KGB) يوري شفيتس أن قال، في مقابلة مع (The Guardian) البريطانية، إن موسكو “استثمرت” في دونالد ترامب على مدى 40 عاما، و”هذا مثال على الحالات التي يتم فيها تجنيد الأشخاص عندما يكونون مجرد طلاب، ثم يرتقون إلى مناصب مهمة. شيء من هذا القبيل كان يحدث مع ترامب”.
قصة مصرف دويتشه بنك الألماني زادت من الشكوك. هذا البنك مدانٌ بغسيل أموال روسية، ويوصف في كثير من الدوائر ببنك الكرملين، وهو نفسه أكبر مقرضٍ لترامب رغم إفلاس شركاته مرارا. نواب في الكونغرس طلبوا في 2017 من البنك الألماني تسليمهم وثائق حول الصلات المالية مع أسرة ترامب، وخصوصا لبحث علاقات مشتبهٍ فيها مع الكرملين.
تقارير كثيرة ذكرت يومها أن تحقيقات يجريها الكونغرس الأميركي أصبحت تشتبه في تقديم جهات موالية للكرملين ضمانات لقروض كبيرة من مصرف دويتشه بنك، طيلة 18 سنة، حصل عليها ترامب قبل أن يصبح رئيساً. المحققون الأميركيون سعوا إلى فهم كيف تمكّن ترامب، الذي يعتبر مستثمرا “غير موثوق فيه” لدى المصارف الأميركية، من الحصول قروض تلو أخرى، وبدون ضمانات، من أكبر بنوك ألمانيا. في جزئية الضمانات، جزم خبراء في التعاملات البنكية أن ملفات الاقتراض من شركات ترامب لم تقدّم ضمانات كافية للحصول على هذه القروض الضخمة. وعلى أساس هذا كان المحققون يحاولون الجواب عن سؤال: هل تقف روسيا خلف التعاملات المالية لدونالد ترامب مع دويتشه بنك؟.
من شاهد ليلة طرد زيلينسكي من البيت الأبيض، وذلك الهجوم عليه من ترامب ونائبه الذي تولى مهمة إشعال الحريق، في مقابل الدفاع المستميت عن الرواية الروسية، شعر كثيرون أنّ شيئا ليس على ما يرام، وأن هناك خطأً في مكان ما. إصرار ترامب على إظهار روسيا طامحة للسلام في مواجهة زيلينسكي “الذي لا يرغب في السلام”، صدم حتى “حلفاءه” في أوروبا الذي تداعوا سريعا للاجتماع لمحاولة استيعاب الجاري، واحتواء المشكل، ومنع تدهور الأمور.
حتى مجرد تصريح عادي من زيلينسكي الثلاثاء الماضي عن أنّ “نهاية الحرب في أوكرانيا لا تزال بعيدة”، سيعتبره ترامب “أسوأ تصريح.. ولن نتسامح طويلا معه”. هذه العدوانية لم تصدر حتى عن الكرملين، لينتهي كثيرون إلى أن ما يجري هو عملية توزيع أدوار شديدة السوء، من موسكو إلى واشنطن. وفي نظر كثير من المتشكّكين: خدمات تؤديها واشنطن/ ترامب لبوتين/ روسيا.
ترامب المغرم بالعقوبات والتعريفات الجمركية، في مواجهة حتى حلفائه في الغرب وجيرانه، لم يستعمل أي وسيلة ضغط ضد روسيا بشأن الحرب في أوكرانيا، بل يستميت في الدفاع عن ثقته في أن بوتين، جاسوس الـKGB السابق، رجل سلام، ويسعى لتخفيف العقوبات عن موسكو والتمهيد لعودة الشركات الأمريكية للاستثمار في روسيا، وقتما يضغط على العالم كله للاستثمار في أمريكا. ترامب نقل فعليا كل الضغط إلى كاهل أوكرانيا، وأيضا أوروبا، من خلال وقف المساعدات العسكرية وقطع خطوط المعلومات الاستخباراتية، والابتزاز لتوقيع صفقة المعادن، وصار يقف فعلياً أمام بوتين وليس خلفه في مواجهة كييف، وأوروبا تالياً.
حوّل الرئيس الجمهوري الأمر إلى لعبة تقاسم أدوار ومصالح مع بوتين، ويتصرّف مثل كاسحة ألغام في طريق الكرملين لتحقيق أهداف الحرب على أوكرانيا: إنهاء فكرة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والتركيز على أطروحة أنه يجب على كييف تقديم تنازلات. ولا يعني الأمر غير الإقرار بـ”وقائع الميدان” والتسليم بالاحتلال الدائم لأراضيها، عبر التنازل عن مساحات شاسعة لصالح روسيا. أما شبه جزيرة القرم الاستراتيجية فتكاد تكون قضية محسومة بمنطوق كلام وزير الدفاع الأميركي الجديد بيت هيجسيث، الذي قال إن “على أوكرانيا أن تتخلى عن آمالها باستعادة القرم”. أما ما تبقى من أراضٍ أوكرانية، فستكون نهباً لواشنطن، حيث يسوّق ترامب أرقاما فلكية يزعم أن إدارة بايدن أنفقتها على كييف، ليبرّر “الحقّ” في الاستيلاء على المعادن النادرة التي تزخر بها أوكرانيا.
لربما هي المرة الأولى التي يحوّل فيها رئيس دولة مساعدات قدمتها بلاده، بشكل طوعي، إلى “قروض مستحّقة السداد”، ويطالب في مقابلها ثروات البلد الذي استفاد من المساعدات خلال الحرب. والمحصّلة لن تكون بعيدة عن خدمة روسيا: الأراضي والنفوذ لموسكو، والثروات لواشنطن، وأوكرانيا أضعف إلى الأبد، بعدما تخلّت عن سلاحها النووي بـ”غِواية” غربية أمريكية أساسا. كانت كييف تحتفظ، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، بثلث ترسانة الأسلحة النووية السوفياتية، ما جعلها صاحبة ثالث أكبر ترسانة في العالم حينها. وفي عام 1994، وافقت على تدمير الأسلحة والانضمام إلى معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النوّوية. حصلت حينها على تعويض مالي، وضمانات أمنية بموجب مذكرة بودابست (أوكرانيا وروسيا وبريطانيا والولايات المتحدة)، مقابل تخلّيها عن الأسلحة النووية. والنتيجة تراها العين اليوم.
اليوم، ترامب، إمعانا في إضعاف أوكرانيا، يرفض تقديم أيّ ضمانات أمنية مقابل صفقة نهب المعادن. يرمي الأمر على الأوروبيين، وهو يعلم أنهم غير قادرين على تقديم هذه الضمانات والوفاء بها، بل إنهم يتسوّلون تغطية أي انتشار محتمل لجنودهم في أوكرانيا كقوة حفظ سلام، لمعرفتهم أن سيكونون مكشوفين أمام موسكو دون مساعدة الجيش الأمريكي. بل يبتزّهم ترامب بشكل عنيف لرفع ميزانيات الدفاع والمساهمة أكثر في أعباء حلف شمال الأطلسي، الذي يتهدّده فعليا بالتفكيك، ويخاطب أوروبا بأنه لا يجب أن تعوّل بعد اليوم على الحماية الأمريكية. وليس في الأمر من مصلحة أكثر من خدمة موسكو، التي تعتبر الناتو رأس حربة غربية موجهٍ ضدها.
قصارى القول
هذا الرئيس الذي يتهدّد غزة بالموت والجحيم، ويقرّ بأن القطاع تحول إلى مكان لا يصلح للعيش ( يُثبت، من حيث لا يعلم، على إسرائيل ارتكاب أفعال الإبادة الجماعية)، ويروّع العالم بالعقوبات والتعريفات الجمركية، ويسوّق مع المجانين الآخرين الذين يحكمون البيت الأبيض لمقولة (السلام من خلال القوة)، يتلاشى ويتبخّر أمام روسيا التي تتحوّل حمامة سلام، وبوتين الذي يصير جديرا بالثقة، وتتحوّل أوروبا، في المقابل، إلى قارة تفتقر للديمقراطية وتقمع الحريات، وفق خطابٍ ألقاه أمام مؤتمر ميونيخ للأمن نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس، هذا الشعبوي الصاعد الذي يخدم أجندة اليمين المتطرف، والذي تشاجر مع ( الحليف القريب جدا) رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في البيت الأبيض قبل لقائه مع ترامب في 28 فبراير الماضي، والذي أحرجه الرئيس الأميركي أمام الصحافيين مرة أخرى بروسيا بسؤاله: “هل تستطيعون مواجهة روسيا بأنفسكم؟”.
كثيرون يستحضرون قصة تفكّك الاتحاد السوفياتي ويرصدون حدود تدخّل واشنطن في ذلك، ويرون اليوم سياسات بوتين الحالم باستعادة “الإمبراطورية الروسية”. في المقابل يتابعون ما يفعله ترامب، الذي يُتهم بالعمالة لروسيا، ويُتهم أيضا بانتهاج سياسات تقود إلى تفكيك الولايات المتحدة، التي شكّك في ديمقراطيتها، ويدفعها أكثر فأكثر نحو الحرب الأهلية، ويستهدف “قيمها” بالأوامر التنفيذية، مقوّضا أساسات تعاقد أرْساها “الآباء المؤسسون”.
مع ترامب. فُرجة مثيرة، لمشهدية سمجة.