تحسين أجور القضاة وفوائده على المجتمع ؟!

تُولي المعاييرُ الدولية والإقليمية ذات الصلة بالقضاء أهمية بالغة بأجور القضاة، وتوصي، بالتبع، الدولَ بضرورة تخصيص أجور تلائم المنصب القضائي وما يقتضيه من مسؤوليات وواجبات، أهمها: التجرد، والاستقلال، والنزاهة.
ولعل أبرز ما جاء في هذه المعايير، هو ما نصت عليه الفقرة “ب” من المادة 21 من إعلان “مونتريال” المؤرخ في 10 يونيو 1983 الصادر عن المؤتمر العالمي حول استقلال العدالة، بقولها ما يلي: “تكون رواتب القضاة ومعاشاتهم ملائمة ومناسبة لمركزهم وكرامة ومسؤولية منصبهم”.
وقد تأكد هذا المقتضى في البند 18-ب من إعلان “سينغفي” الذي نص على ما يلي: “يجب أن تكون رواتب القضاة ومعاشاتهم التقاعدية كافية ومتناسبة مع المركز الوظيفي والكرامة ومسؤوليات المنصب القضائي”.
وهو ما أعادت التأكيد عليه المادة 13 من الميثاق العالمي للقضاة، والتي نصت على ما يلي: “يجب أن يحصل القاضي على الأجر الكافي لتأمين استقلاله الاقتصادي، ويجب أن لا تحدد الأجور وفقا لنتائج عمل القاضي، وألا تخفض أثناء مدة خدمته في القضاء”.
وذهبت المذكرة التوضيحية للميثاق الأوروبي بشأن النظام الأساسي للقضاة إلى حد تفضيل الرفع من مستوى أجور القضاة دون تحديدها بناء على الأجور المخصصة لأعضاء السلطتين التشريعية والتنفيذية، وقد جاء فيها ما يلي: “يبدو أنه، من الأفضل للدولة، أن يكون مستوى أجور القضاة مرتفعا حيث يكون درعا للقضاة ضد الضغوط، عوض تحديده على أساس أجور أصحاب الوظائف العليا في السلطة التشريعية والتنفيذية، طالما أن أجورهم تختلف حسب الأنظمة الوطنية المختلفة”.
ولم تقف هذه المعايير عند حدود التشديد على ضرورة تخصيص أجرة كافية ومرتفعة للقضاة تحصينا لهم، بل تجاوزت ذلك إلى دعوة الحكومات إلى اعتماد آلية للمراجعة الدورية لهذه الأجور بحسب مستوى التضخم وارتفاع الأسعار، وهو ما عبرت عنه، صراحة، المادة 21 من إعلان “مونتريال” أعلاه، بقولها: “تعاد تسوية هذه الرواتب والمعاشات نظاميا بشكل يجعلها مواكبة تماما لارتفاع معدل الأسعار”. وهذا ما شدد عليه إعلان “سينغفي” المذكور في بنده 18، بقوله: “على أن تخضع [أي أجور القضاة] للمراجعة بصفة دورية لمواجهة أثر التضخم المالي أو التقليل من آثاره”.
ولا تتحرج المعايير المذكورة في الكشف عن السبب الجوهري في الرفع من مستوى أجور القضاة، إذ غالبا ما تحدده في تقوية مناعتهم الذاتية من الوقوع في الفساد، وهو ما يتبدى من توصيات لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، ومنها هاتان التوصيتان:
الأولى: وهي المضمنة بالفقرة 20 من الوثيقة عدد CCPR/C/UNK/CO/2، وقد نصت على ما يلي: “اعتماد مستوى أفضل لأجور القضاة بهدف حمايتهم من الفساد”.
الثانية: وهي المضمنة بالوثيقة عدد CCPR/CO/69/KGZ، فقرة 15، وقد نصت على ما يلي: “إن إجراءات التصديق المطبقة على القضاة، وشرط إعادة التقييم كل سبع سنوات، وتدني مستوى الأجور، وعدم تأمين مدة ولاية القضاة، كل هذه الأمور من شأنها تشجيع الفساد والرشوة”.
وترتيبا على هذه المرجعية، يمكن القول بأن تحسين أجور القضاة ينطوي على العديد من الفوائد التي تعود على المجتمع بالنفع والمصلحة، وتتمحور جميعها حول “المنصب القضائي” وما يفرضه من مسؤوليات على القضاة، أهمها: الحفاظ على كرامة القضاة، وتقوية مسؤولياتهم، وترسيخ استقلالهم الاقتصادي والاجتماعي، وتحصينهم من كل الضغوط المحتملة، والرفع من مناعتهم الذاتية من الوقوع في الفساد.
وتأسيسا على ما سلف، وارتباطا بالتجربة المغربية، اجترح “نادي قضاة المغرب” العديد من المبادرات الرامية إلى تحسين الوضعية المادية والاجتماعية للقضاة عبر مطالبته بالزيادة في أجورهم، وأقنع بواسطتها السلطة التنفيذية التي رفعت أجور قضاة الدرجات الثالثة والثانية والأولى، وتم تأجيل الزيادة في أجور قضاة الدرجة الاستثنائية والملحقين القضائيين، وذلك خلال سنتي 2013 و2014.
وقد شدد خلال إعداد القوانين التنظيمية على ضرورة إقرار العديد من التعويضات التي لم يسبق للقضاة أن استفادوا منها منذ استقلال المغرب خلافا للعديد من أطر الدولة، والرفع من قيمة التعويضات الممنوحة للمسؤولين القضائيين عن مهام التسيير الإداري، وهو ما تحقق، فعلا، بموجب مرسوم تطبيقي صدر بتاريخ 19 مارس 2020، والذي كان صدوره موضوع مرافعات مستقلة من لدن “نادي قضاة المغرب”. كما طالب هذا الأخير، أيضا، بتوفير سكن وظيفي للمسؤولين القضائيين يليق بوضعيتهم الدستورية والقانونية، وبالتعجيل بصرف التعويضات المنصوص عليها بمقتضى المرسوم المذكور التي تأخرت بدون مبرر، وتسوية التأخيرات التي كانت تطال صرف مستحقات ترقيات القضاة وأجور القضاة المعينين حديثا بعد تخرجهم من المعهد العالي للقضاء، ومعالجة إشكالية عدم استفادة قضاة الدرجة الاستثنائية من التعويض عن مهام التسيير الإداري المقرر في المرسوم ذاته.
وبعد تكريس استقلال القضاء عن السلطة التنفيذية، وما ترتب عنه من نقل اختصاص تدبير الوضعية المالية للقضاة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، اضطلع هذا الأخير بدوره في تحسين الوضعية المادية للقضاة، تنزيلا لمخططه الاستراتيجي في هذا الشق، فأنجز ما لم تفِ بإنجازه وزارة العدل قبله، إذ كانت له اليد الطُّولَى في إقرار الدرجة الممتازة، وهذا مسلك حقق، ولا شك، نتائج أفضل من الزيادة في أجور قضاة الدرجة الاستثنائية. كما تمت الزيادة في أجور الملحقين القضائيين، وتوفير السكن الوظيفي للمسؤولين القضائيين، وصرف التعويضات الممنوحة للقضاة التي ظلت متوقفة زمن وزارة العدل، وتمت تسوية إشكالية التعويض عن مهام التسيير الإداري بالنسبة لقضاة الدرجة الاستثنائية الذين كانوا محرومين منه، وبدأ التعجيل، من جهة أخرى، بصرف أجور القضاة المعينين حديثا في أقل من شهرين خلافا لما كان سائدا في مرحلة وزارة العدل.
وإذا كان نقل تدبير الوضعية المالية للقضاة إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ولو لم يمر عليه سوى سنتين (2023 و2024)، عاد بفوائد عديدة ومنافع وافرة، فإن الأيام القادمة تبقى حبلى بالمبادرات والقرارات التي من شأنها مواصلة هذا النهج الرامي إلى تحسين الوضعية المادية والاجتماعية للقضاة التي لم تعد تساير ظروف المعيشة ومعدل الأسعار، خصوصا من زاوية إقرار بعض التعويضات التي ستَرفع، ضمنا، أجورهم، وستحفزهم على المزيد من الانخراط في ورش إصلاح القضاء.