story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
مجتمع |

تاريخ طويل من الخسائر.. فيضانات “واد الشعبة” تعيد آسفي إلى ليالي الفقد

ص ص

عادت الفيضانات الكارثية التي شهدتها مدينة آسفي، يوم الأحد 14 دجنبر 2025، لتضع المدينة من جديد في مواجهة واحدة من أقدم مخاوفها، بعدما خلفت حصيلة ثقيلة في الأرواح، ذهب ضحيتها ما لا يقل عن 37 شخصًا إلى حدود اللحظة، فضلا عن خسائر كبيرة في الممتلكات والبنى التحتية.

هذه الأحداث أعادت إلى الواجهة ذاكرة جماعية مثقلة بالخسائر، إذ تفيد المعطيات التاريخية بأن مدينة آسفي عرفت، عبر مختلف الحقب، فيضانات متكررة كان “واد الشعبة” محورها الأساسي ومصدر قلق دائم لسكان المدينة.

معلومات عن الوادي

وتتمثل “الشعبة” في سفحين متقابلين منفرجين، بأسفلهما مجرى مسيل صغير موسمي الجريان، وتشير المصادر التاريخية إلى أن هذه الشعبة كانت في الماضي عامرة بالسكان، وكانت جنباتها غنية بالبساتين والأشجار المثمرة، كما كان عامل آسفي يشملها بسلطانه الإداري والجبائي، ولا تزال إلى اليوم أنقاض منازل وسوانٍ شاهدة على ماضٍ أخضر مزدهر.

ويُعد واد “الشعبة” واحدًا من ثلاثة أودية كانت تحيط بمدينة آسفي، إلى جانب واد “الباشا” و”إيغزر”، وهو مسيل أو نهر صغير ينبع من عيون تكابروت شرق المدينة، يشق مجرى ضيقًا عبر الشعبة قبل أن ينتهي في المحيط الأطلسي، على امتداد يقارب 12 كيلومترًا.

ويشير المؤرخ والباحث في تاريخ مدينة آسفي، إبراهيم كريدية، إلى أن عمق مجرى الواد واتساعه يدلّان على أن صبيبه كان ضعيفًا مقارنة بالأنهار المجاورة، مثل “أم الربيع” و”تانسيفت”، غير أن جريانه في الماضي كان يستمر لعدة أشهر، وربما طوال السنة.

ويضيف الباحث أن الوادي أصبح اليوم شبه جاف، ولا تجري فيه المياه إلا خلال فترات التساقطات، ولساعات أو أيام معدودة، كما يوضح أن المجرى الأسفل لواد “الشعبة” كان يخترق في الماضي “باب الشعبة” في اتجاه البحر حيث يصب، غير أنه عند تحصين المدينة من قبل البرتغاليين، تم حفر قناة حُوِّل إليها مجرى الواد ليسير بمحاذاة الأسوار من الخارج وصولًا إلى البحر.

مصدر خوف دائم

وقد شكّل هذا الوادي مصدر خوف وتهديد دائمين لدى ساكنة آسفي، إذ كانت مياه السيول المتجمعة من الشعبة والمناطق المجاورة، خلال السنوات المطيرة، تندفع بكميات هائلة وبقوة وسرعة نحو المدينة العتيقة، مسببة فيضانات مباغتة وكاسحة.

وكانت هذه السيول تُغرق الأحياء والمنازل والمتاجر بالأوحال والمياه، وتزهق الأرواح، وتفسد الأموال والسلع والأثاث، كما تتسبب في تهدم الأسوار والدور ونفوق الدواب.

ولم تسلم من هذه الأضرار حتى المعالم الدينية والعلمية، إذ كانت المياه والأوحال تغمر المسجد الأعظم وتفسد خزانة كتبه وأفرشته، كما تتسرب إلى المدرسة العتيقة والزاوية الناصرية.

أربع فيضانات تاريخية

ويسوق الباحث، في هذا الصدد، أربعة نماذج من أبرز فيضانات القرون الثلاثة الأخيرة، أولها فيضان سنة 1791، حيث هاجم واد “الشعبة” المدينة بسيوله في منتصف الليل بينما كان السكان نيامًا، وأغرق، بحسب الروايات، ما يزيد عن عشرين شخصًا، فيما تشير روايات أخرى إلى أكثر من مائة ضحية.

ثاني فيضان يعود لسنة 1855، حين اعترض موج البحر تصريف مياه السيول، ما أدى إلى غمر وسط المدينة بعلو كبير اضطر السكان معه إلى استعمال المراكب للتنقل، والمثير في هذا الفيضان أنه لم يُسجَّل سوى ضحية واحدة، يُدعى عيصوت، من سكان اليهود، فتم تأريخ هذا الحدث باسمه، وأُطلق عليه “حملة عيصوت”.

أما الفيضان الثالث فهو فيضان سنة 1901، حيث غمرت المياه القوية جميع دروب المدينة العتيقة، بل تجاوزت باب الرباط إلى ما يُعرف اليوم بساحة الاستغلال، وأدى ذلك إلى إفلاس عدد من التجار والحرفيين بعد إتلاف سلعهم وضياع محترفاتهم.

ويشير الباحث إبراهيم كريدية إلى وقد الفقيه أحمد بن علي الصويري رقّ لحالهم، فكتب إلى السلطان المولى عبد العزيز ملتمسًا عونه، واصفًا في رسالته هول الكارثة وما خلفته من خراب وخسائر جسيمة في الأرواح والممتلكات.

في حين وقع الفيضان الرابع سنة 1927، وهو آخر فيضان كبير ضرب مدينة آسفي، وبسبب فداحة أضراره صار الآسفيون يؤرخون به أحداثهم، وأطلقوا عليه اسم “عام الديكة”. فقد داهم الفيضان الساكنة على حين غرة، وأغرق المدينة بمياهه دون أن يستثني دارًا أو مسجدًا أو متجرًا أو مدرسة.

وقد نقلت جريدة Le Petit Marocain” الاستعمارية آنذاك، رواية مفصلة عن هذا الحدث، جاء فيها أنه “بعد يوم وليلة من الأمطار الغزيرة، هاجم واد الشعبة المدينة في الساعة الثانية صباحًا من يوم الاثنين 21 نونبر 1927، في ظلام دامس والناس نيام، وبلغ علو المياه في بعض الأماكن مترين ونصف، ما أدى إلى جرف من كان نائمًا في الشارع، وسقوط سبعة قتلى، إضافة إلى نفوق عدد من الخيول وإتلاف سلع المتاجر الواقعة على طول زنقة باب الشعبة، بخسائر قُدّرت بملايين الفرنكات”.

وأمام هذه الأضرار، استجابت سلطات الحماية لمطالب السكان، فشرعت في حفر وتعميق وتبليط قناة اصطناعية تمتد من جنان الفسيان إلى البحر، لتحريف مجرى واد الشعبة واستيعاب مياهه خلال الفيضانات، حمايةً للمدينة من أخطاره.

وقد اكتمل هذا الإصلاح سنة 1928، بعد تأخير دام 15 سنة، منذ أن رفع الآسفيون مطلبهم إلى المقيم العام ليوطي خلال زيارته للمدينة سنة 1912.

وجاء في رسالتهم آنذاك “اعلم دام سعدك أن بلدنا تأتيها السيول… تهجم عليه وتمر بوسط البلد، وفي بعض السنين يكثر المطر ويعظم السيل، وقد يصل إلى السور، ويبيد السلع ويتلف النفوس… وغير خاف في نظرك أن هذا مما يُقدَّم على كل شيء، وقبل جميع الإصلاحات.”

ويورد المؤرخ أن حضور واد “الشعبة” بهذا الخطر المتكرر وبهذا الأثر العميق في الذاكرة الشعبية الجمعية عبر العصور والدول، كان بلا شك من أقوى الأسباب التي دفعت الإخباريين والمؤرخين إلى ربط اسم آسفي بأصله الأمازيغي “أسيف”، أي الوادي، في إشارة مباشرة إلى واد “الشعبة” الذي كان يعبر المدينة في مجراه الأسفل.