story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

بورصة حزبية

ص ص

من بين ردود الفعل التي توصلت بها عقب نشر مقالي الأخير المتعلق ب”المسخ” الذي كشفه التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات حول التدبير المالي للأحزاب؛ رسالة من صديق ذكّرني بدراسة صدرت السنة الماضية عن مركز “تكامل”، والتي تحمل عنوان “الحزب الكارتل”.
حاولت الدراسة فحص وضعية الأحزاب المغربية في علاقة بالتمويل العمومي، انطلاقا من النموذج الذي طرحه الباحثان ريشارد كاتز وبيتر ماير، والذي حاول تفسير تراجع الأحزاب السياسية في الديمقراطيات الغربية، بتزايد اعتمادها على الدعم المالي للدولة، ما يؤدي إلى إنتاج “بيروقراطية” تحوّل هذه الأحزاب إلى أدوات طيعة في يد الدولة.
من المعروف نظريا أن الدعم العمومي للأحزاب السياسية يوفر ضمانات لقيام هذه الهيئات بأدوارها الحيوية في التأطير والتعبئة السياسيين، لكنه ينطوي على مخاطر مثل تكريس الوضع القائم ومنع ديناميات التغيير، والحؤول دون بروز فاعلين جدد وإضعاف علاقة الأحزاب بالمجتمع…
لكنني، وكما أشرت في مقالي السابق، أعتبر أن التقرير الجديد للمجلس الأعلى للحسابات ينطوي على ما هو أخطر من الآثار السلبية للتمويل العمومي. نعرف أننا في المغرب في حلة تعتبر فهيا جميع الأحزاب أدوات طيّعة، بل رخوة، في يد الدولة، ولنتذكر تلك العبارة التي أطلقها الكاتب الأول الحالي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، إدريس لشكر، حين صرخ مطالبا بالكف عن استعمال عبارة “حكومة جلالة الملك”، وإن المعارضة أيضا هي “معارضة جلالة الملك”.
ما أثارني أكثر في هذا التقرير هو الحالة الفريدة التي يمثلها حزب التجمع الوطني للأحرار، ليس في ارتباط بالمال العام، بل العكس تماما، حجم الأموال الخاصة التي استطاع تعبئتها و”استثمارها” في سعيه إلى السلطة، كما يقتضي التعريف البسيط للحزب السياسي.
تخبرنا الوثيقة الرسمية الجديدة أن هذا الحزب وحده يستأثر بثلث الموارد المالية التي حصل عليها 34 حزبا سياسيا معترفا به في “السوق السياسية” الوطنية. فمن أصل 153 مليون درهم التي تدفقت إلى حسابات الأحزاب، من جميع المصادر الخاصة والعمومية، حصل هذا الحزب وحده على أكثر من 50 مليون درهم.
وعندما ندقق أكثر في تركيبة هذه الموارد، نجد أن أكثر من نصفها عبارة عن “هبات وتبرعات”، بما يناهز 26 مليون ونصف مليون درهم. وإذا علمنا أن مجموع ما أنفقه الحزب خلال السنة التي يشملها التقرير (2022)، هو 32 مليون ونصف مليون درهم، فإننا نصبح أمام حزب فريد من نوعه في المشهد السياسي المغربي، لأنه يحقق الاستقلال المالي كليا، بما أن مداخيل واجبات انخراط ومساهمات الأعضاء يكاد يبلغ الخمسة ملايين درهم.
سيقول لي البعض ما بك تتحفظ على حالة نادرة لحزب لا يحتاج إلى مال عام كي يقوم ب”وظيفته”؟ والجواب هو أن المنطق يغيب عن هذه الحالة، لأن أعتى الأحزاب الاشتراكية وأحزاب الجماهير (في مقابل أحزاب الأطر) في أعرق الديمقراطيات، لا تحقق هذه الاستقلالية المالية رغم ملايين الأتباع والمنخرطين. ولا أظن أن أي كبشين سيتناطحان حول افتقاد حزب الحمامة لصفة حزب الجماهير. ثم إن الأمر لا يتعلق بتمويل الأعضاء والمنخرطين، بل بأكثر من مليارين ونصف مليار كلها عبارة عن هبات وتبرعات.
هناك مخاطر كبيرة ترتبط بالتمويل الخاص للأحزاب السياسية، منها عزل الأحزاب كليا عن الدولة والمجتمع معا، لأن الأحزاب التي تعتمد على المال العام على الأقل نعرف أن ولاءها للدولة. كما يسمح تمويل الأحزاب من طرف الرأسمال الخاص بتمكين شخص او فئة من الأغنياء والنافذين من الوصول إلى السلطة وتحقيق أهدافهم الذاتية.
كل التجارب الديمقراطية تضع قيودا تحد من تأثير المال الخاص في الأحزاب، حيث منعت فرنسا منذ 1995 تبرع الشركات الخاصة للأحزاب، وسبقتها هولندا إلى ذلك من الستينيات، وتمنع بريطانيا منطق التبرع بشكل شبه كلي وتضع لائحة حصرية بمن يمكنهم تقديم هبات للأحزاب، بينما تعتمد ألمانيا قائمة بالجهات التي لا يمكنها أن تتبرع للأحزاب، حيث تبقى حصة التبرعات من موارد الأحزاب الألمانية أقل من 10 في المائة…
في حالة الحزب المتصدر للمشهد المغربي حاليا، نحن أمام أكثر من 50 في المئة من الموارد كهبات وتبرعات. والقانون التنظيمي للأحزاب السياسية يسمح للشخص الواحد بتبرع سنوي يصل إلى 60 مليون سنتيم، أي أن “كارتل” من 50 شخصا يمكنهم توفير الـ26 مليون التي حازها الحزب في سنة واحدة، وهو مبلغ يفوق مجموع موارد حزب الاستقلال مثلا.
أي أن قوانيننا تسمع لشخص واحد، بتمويل حزب سياسي ضخم، عبر جمع بضع عشرات من الموالين وجعلهم متبرعين صوريين… وفي هذا الحالة لا نكون أمام “الحزب الكاترل”، والذي يعني ذلك التكتل الذي يتواطأ للتحكم في الأسعار في سوق معينة، بل نصبح أمام مقاولة في بورصة السياسة.