story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
رأي |

بنعبدلاوي.. الائتلاف والاختلاف

ص ص

لم تجتمع أطياف سياسية وفكرية مختلفة في لقاء أو حفل أو تظاهرة ما، ولم يُجسِّد حدثٌ ما الاختلافَ الذي تدعيه كل الأدبيات الأيديولوجية والسياسية في المغرب الجديد منذ وقت طويل. لكن جنازة الأستاذ الراحل المختار بنعبدلاوي، يوم الخميس 29 غشت الماضي، أعادت هذا الأمل في لقاء المختلفين والمتصارعين، إذ جمعت بين اليساري والإسلامي، بين المتدين والملحد، بين العلماني والسلفي، بين الحداثي والمحافظ… وفي ذلك انعكاس واضح لنزعة الرجل التي ظلت تحرص على الائتلاف مع الذات واحترام الاختلاف مع الآخر، وتعبير واضح عن نهجه العام الرامي إلى تكريس التعددية أفقا للحياة.

ثمة ما جعل بنعبدلاوي يعيش هذا الاختيار الشاق في الحياة بعفوية وتلقائية. أولا، ما من شك أنه تشبع بقيم الحوار والاختلاف والتعدد هذه، منذ وقت مبكر، في حضن أسرته المتعلمة المتأثرة بالتقاليد والعادات الفيلالية والأخلاق الصحراوية المتفردة.

كما يعود الفضل في إيمانه بهذه القيم إلى أثر الحركة الوطنية وسياق المقاومة المغربية التي انتسب إليها والده وباقي أفراد عائلته خلال الفترة المتأخرة من الحماية الفرنسية- الإسبانية وبعيد الاستقلال. وقد كان هذا الأثر جليا في طريقة تعامله مع أهله وأبنائه وأصدقائه وزملائه في العمل.

وكان لانتمائه إلى حركة اليسار المغربي، وإلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في البداية وفيدرالية اليسار لاحقا، أثر واضح أيضا في ممارسته السياسية والحزبية وقناعاته الفكرية في مجال تدبير الفضاء العمومي. وهو لا يخفي تأثره الواضح ببعض زعماء هذه الحركة، أمثال الفقيه البصري.

لكنه وإن تشبع بأفكار اليسار، رفض راديكاليته الحزبية وانغلاق أفقه الفكري ومحدوية مشروعه المجتمعي. وقد ساعده هذا الاختيار على أن يتجاوز النظرة الضيقة التي تعدّ الديمقراطية صندوق اقتراع وانتخابات عابرة، إلى تصور أوسع يرى فيها مناخا حرا للحوار بين مختلف مكونات المجتمع، كيفما كانت قناعاتها الفكرية والسياسية والأيديولوجية، الخ.

وفي وقت لاحق، وبعد رحيله إلى سورية من أجل متابعة دراسته الجامعية، سيتغذى هذا الاختيار من تجربة مقاومة أخرى وتجربة سياسية مغايرة، إذ سيعيش النضال الفلسطيني من الداخل، صحافيا ومترجما وناشطا في وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) التي أسسها المناضل زياد عبد الفتاح سنة 1972 لمواكبة أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية وتحركاتها. كما سيجاور التجربة السياسية السورية، في بعديها الوطني والقومي، وإن كان يبدي حولها انتقادات لاذعة.

أضف إلى هذا تأثر شخصيته بالحركية الفكرية داخل سورية التي كانت وقتها تغلي بأفكار وآراء مفكرين وفلاسفة وأدباء كبار، أمثال عزيز العظمة وجورج طرابيشي وبرهان غليون وطيب تيزيني (أستاذه والمشرف على أطروحته) وحنا مينة وحيدر حيدر وسهيل إدريس وأدونيس وغيرهم.

كما يعود الفضل في مشروعه الفكري والفلسفي، بأبعاده العقلانية والإنسانية، إلى أثر كتابات هذه الكوكبة من المفكرين والفلاسفة والأدباء. لكن لا ينبغي أن نغفل هنا انفتاحه على مختلف الاتجاهات الفكرية الإنسانية العربية الإسلامية القديمة والحديثة، وكذا الغربية الأوربية، بتعبيراتها اليونانية القديمة وفلسفاتها المعاصرة.

ومن هذه المشارب والروافد المختلفة والمتباينة استقى تصوراته حول مختلف القضايا الفكرية التي عالجها، سواء في مجال الإسلاميات أو في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والتعددية وغيرها. وهي لم تغب عن ذهنه حتى في مرافعاته المدنية من أجل تغيير القوانين المحلية، أو من أجل النهوض بالاتحاد المغاربي والتكامل العربي، الخ.

أما على الصعيدالسياسي، فقد توجه بنعبدلاوي نحو التوافق والحوار، إيمانا منه أن الوحدة التامة لا تتحقق حتى بين أفراد الأسرة الواحدة. من هنا، لم يكن رفض الدعوات التي كان يوجهها إليه حزب العدالة والتنمية وجماعة العدل والإحسان، رغم اختلافه الفكري والأيديولوجي مع هذين المكونين.

وعلى النحو ذاته، ظل حريصا على الاستجابة والتفاعل مع تيارات وتعبيرات سياسية تنتمي إلى دار المخزن أو إلى اليسار الراديكالي أو تيارات جذرية أخرى. وفي المقابل، ظل متمسكا على أن يعامل الجميع بالمثل، وأن يجعل من مركز الدراسات والأبحاث (مدى)، وكذا مجلة ‘رهانات’ التي تصدر عن المركز تحت إدراته التحريرية، منبرين لترجمة هذا الأفق التعددي في مشروعه الفكري ونشاطه المدني.

هكذا، ينبغي أن يخلَّد اسم الراحل المختار بنعبدلاوي، وطنيا على الأقل، بوصفه تعبيرا حقيقيا عن هذا المغرب المتعدد الذي نعيشه اليوم، ومثالا حيا يجسد الائتلاف مع الذات والاختلاف مع الآخر. ولا بد أن يكرس فكره النظري وممارسته الميدانية درسا دالا على المواطنة، بما تعنيه من إمكانيات وقابلية للتعددية والعيش المشترك وانسجام وتواصل بين الانتماءات الفكرية والسياسية المختلفة والمتباينة…