بشائر في الأرض والسماء
أكتب هذه الكلمات قبيل الفجر، صباح الأربعاء 24 دجنبر 2025، تحت غطاء من صوت مطر غزير يكاد لا يهدأ.
والمطر، في مخيال مغربي مثلي، ليس مجرّد ماء ينزل من السماء؛ بل هو وعدٌ قديمٌ بالطمأنينة، وبسنة فلاحية أقلّ قسوة، وبقليل من التقاط الأنفاس في زمن صار فيه الخوف من الأمن المائي والغذائي خبزا يوميا. غير أنّ هذا الخير نفسه قد ينقلب مأساة عندما تقرّر قنوات التصريف والبنيات التحتية أن تُكذِّب السماء، فتُحوِّل البركة إلى فاجعة.
ولذلك لا يمكن أن أستدعي “البشائر” دون أن أجدد العزاء لأهالي ضحايا فيضانات آسفي؛ لأنّ الأخبار التي لا تُمسك بالجرح وهي تُمسك بالندى، تتحول إلى تغطية بلا ضمير.
لقد كشفت فاجعة آسفي، حجم العطب حين تجتمع أمطار استثنائية مع هشاشة التدبير المحلي، فتكون النتيجة قتلى وبيوتا غمرتها المياه ومدينة تُسأل فيها أسئلةٌ بسيطة وقاسية: لماذا لم تُصرّف المياه في الوقت المناسب؟ ولماذا تُترك الأرواح رهينةَ ساعة واحدة من غضب السماء؟
هنا أشير إلى “قاعدة القطار”. فالصحافةُ تُغريها، بمنطق الخب، قصةُ القطار الذي يتأخر لا القطار الذي يصل في وقته؛ لأنّ “الانحراف عن المألوف” و”السلبيّة” جزءٌ أصيل من قيم الأخبار كما ناقشتها الأدبيات الأكاديمية عن “قِيَم الخبر” منذ كلاسيكياتها إلى تحديثاتها.
لكنّ هذا المنطق، حين ينتقل إلى أجناس الرأي دون وعي، قد يتحول إلى إدمان على السواد، وإلى عدسة لا ترى إلا التشققات. وفي المقابل، الرأي، حين يكون أمينا، ليس مطالبا أن يُخفي القطار المتأخر، ولا أن يُصفّق للقطار الذي وصل في وقته، بل أن يضعهما معا في المشهد، وأن يُسمّي الأشياء بأسمائها، وأن يبقى وفيا لواجب “البحث عن الحقيقة ونقلها” وتقليل الأذى قدر الإمكان، لا صناعته.
ومن هذا الباب بالذات، لا أجد حرجا أن ألتقط، وسط كل ما يمكن الوقوف عنده من سلبيات وخروقات وتجاوزات في الأرض والسماء، بعض الإشارات التي تُشبه “البشائر” فعلا. على الأرض، شاهدتُ في اليومين الماضيين، وأنا أتابع من الرباط حركة الجمهور الجزائري، كيف يمكن لكرة القدم أن تُربك آلةَ الوقيعة، ولو مؤقتا.
كأس إفريقيا للأمم تُلعب هنا، في المغرب، وقد افتُتحت رسميا في الرباط، بلحظات احتفال يهمّني فيها ما وراء الأضواء: الناس حين يلتقون بلا وسيط كراهية.
المنتخب الجزائري حاضرٌ في هذه النسخة، ومبارياته تُقام في الرباط، بما يجعل المدينة مسرحا يوميا لاختبار اجتماعي صامت: هل أقوى من الحدود المغلقة تلك الحدود التي رسمتها حملاتُ التحريض في العقول؟
قد يقول قائل: هذه عاطفةُ مدرجات، تُطفئها أول أزمة سياسية. ربما. لكنّ السياسة نفسها، في منطقتنا، تعوّدت أن تُجرّب “المداخل الناعمة” قبل أن تُعلن القرارات الصلبة. لا أملك “خبرا” هنا، ولا أوزّع اليقين بالمجان؛ أنا أكتب رأيا مبنيا على قرائن. والقرائن تقول إنّ حرارة الجفاء ليست قدرا أبديا، وإنّ حسابات الأنظمة قد تتبدّل حين تتبدّل خرائط المصالح.
يكفي أن نلاحظ كيف أخذت الجزائر، وفق تحليلات صحافية دولية، تُرسل إشاراتِ انفتاح نحو واشنطن، وتخفّف من حدّة بعض تموضعاتها في ملفات حساسة، في سياق بحثها عن مخارج من عزلة إقليمية ودولية آخذة في الاتساع.
وفي قلب هذا السياق، يبرز ملف الصحراء بوصفه واحدا من أكبر أسباب التوتر في المغرب الكبير، ولكنه قد يصير، بمفارقة التاريخ، مفتاحا لتهدئة ممكنة إذا أُحسن استثماره سياسيا بدل أن يُستثمر فقط في تسجيل النقاط.
وحين تُضاف إلى ذلك إشارات أمريكية أكثر صراحة في تشجيع الاستثمار الأمريكي في الأقاليم المغربية في الصحراء، يصبح السؤال مشروعا: هل نحن أمام ضغط دولي لإغلاق ملف طال، أم أمام إعادة ترتيب للمقاعد لا أكثر؟
الجواب الأقرب إلى الواقع: نحن أمام إعادة ترتيب كبرى، عنوانها الأوسع هو التنافس العالمي، لا مجاملة هذا الطرف أو ذاك. استراتيجية الأمن القومي الأمريكية الصادرة في دجنبر 2025 تتحدث بوضوح عن الصين بوصفها ساحة التنافس الأهم، وعن الحاجة إلى بناء تحالفات وشراكات اقتصادية وأمنية، وتذكر أفريقيا تحديدا في سياق “المعادن الحرجة” وبناء الائتلافات، وتصف دول الدخل المنخفض والمتوسط بأنها من أكبر ساحات المعركة الاقتصادية القادمة. وفي هذا السياق، يُقدَّم دعم واشنطن المتجدد لطرح الرباط في الصحراء باعتباره جزءا من حسابات أوسع، منها كبح نفوذ الصين في شمال أفريقيا وتعزيز تموضع “الشريك المستقر”.
ولا يقتصر هذا البعد الإيجابي على المنطقة المغاربية؛ فالعلاقات المغربية المصرية، لمن يتابعها بهدوء، تبدو كأنها تدخل مرحلة تطوير محسوب، لا يكتفي بإشارات المجاملة، بل يراهن على أدوات تُحسن التنسيق وتُسرّع تحويل النوايا إلى نتائج. زيارة وزير الخارجية المصري إلى الرباط في أواخر ماي 2025 جاءت في هذا السياق، ومعها إعلان التفاهم على لجنة مشتركة للتنسيق والمتابعة لتعزيز التعاون الاقتصادي تُسند رئاستها إلى رئيسي الحكومة، بما يمنح العلاقة إيقاعا مؤسساتيا أعلى، ويُخرجها من منطق اللقاءات الموسمية إلى منطق الاشتغال المستمر.
والمغزى الأعمق هنا، في تقديري، هو انتقالٌ تدريجي من التنافس التقليدي إلى هندسة أوعى للتكامل، خصوصا في الفضاء الإفريقي: بدل أن يكون كل بلد منشغلا وحده باقتناص الحصة، يصبح التفكير في تقاسم الأدوار وربط الخبرات واللوجستيك والاستثمار، بما يخلق قيمة مشتركة ويجعل الحضور المغربي والمصري أكثر تأثيرا في سوق تتسع للجميع بقدر ما تضيق على من يدخلها منفردا.
هل يعني هذا أننا دخلنا زمن الصفاء؟ طبعا لا. في الأرض ما يكفي من الفساد ليُفسد المعنى، وفي السماء ما يكفي من الغضب ليُفلتِت الحسابات. ولكنّ اليأس، حين يتحول إلى “أسلوب تحرير”، يصير هو نفسه خرقا من خروقات الصحافة: لأنّه يختار زاوية واحدة ويُلغي سائر الزوايا.
أنا لا أُنكر القطار الذي يتأخر، ولا أطلب من أحد أن يُغلق دفتر النقد. كل ما في الأمر أنني، في هذه الليلة الممطرة، وجدتني أسمع في الضجيج نبرة أخرى: نبرةَ إمكان أن يكون المطر بشرى لا مأتما، إذا أصلحنا ما بيننا وبين الأرض.
وإمكان أن تكون الرياضة بابا صغيرا لكسر قسوة السياسة، إذا خفّفنا من نفخ الكير. وإمكان أن تتحول الجغرافيا من قدر خصومة إلى قدر شراكة، إذا تذكّرنا، بلا سذاجة، أن “لا غالب ولا مغلوب” ليست شعارا للإنشاء، بل وصفة نجاة في منطقة تتغذى من خساراتها