برادة: تكريم بحجم الوطن
غادر محمد برادة، الأستاذ والروائي والناقد المغربي المعروف، قاعات الدرس في جامعة الرباط قبل سنوات عدة، بعد أن أبلى فيها البلاء الحسن حتى بلغ سن التقاعد. لكن ما يبعث على التأسف، بالنسبة لهذا الرجل المبدع الذي ساهم بقوة، وما يزال، في تجديد الدرس الجامعي، أن المؤسسة التي اشتغل بها، وغيرها من المؤسسات التعليمية والثقافية المماثلة، تناست الرجل، كأنه لم يكن أبدا، ولم يعطِ أي شيء.
بل تناساه الوطن كله، إلا من بعض الدعوات التي توجه إليه، هنا وهناك، للمشاركة في ندوة أو مؤتمر، مثل غيره من المتدخلين والفاعلين الثقافيين. وقد تكرر هذا الجحود والنكران مع غيره من أعلام هذا البلد البارزين، الذين أقاموا أعمدة الجامعة المغربية على أسس متينة.
في الواقع، لم يكن محمد برادة مجرد رجل تعليم بسيط يؤدي مهامه بشكل روتيني. لا، بل كان صاحب مشروع قائم على انشغالات متعددة: لقد عمل، إلى جانب كل من إدريس الناقوري وأحمد اليابوري وغيرهما، على تأسيس الدرس الأدبي في الجامعة المغربية على أسس نظرية ومنهجية مستمدة من مرجعيات كونية حديثة.
وانكب برادة، فضلا عن ذلك، على الكتابة في أجناسها المختلفة، إذ راكم عشرات الأعمال في الرواية والقصة والنقد والمقالة وغير ذلك. كما كان حاز قصب السبق في ترجمة بعض أهم الأعمال النظرية والفكرية والأدبية (رولان بارت، ميخائيل باختين، عبد الكبير الخطيبي، الخ.) ولا يمكن للمرء أن يغفل هنا التزامه العضوي في العمل السياسي وانخراطه الدؤوب في المشاركة في الندوات والمؤتمرات والفعاليات الثقافية المختلفة داخل المغرب وخارجه.
وحين يقدم مختبر السرديات على هذا التحدي الكبير الرامي إلى تكريم الرجل في أربع وعشرين مدينة مغربية، فإنما يحتفي بهذا المشروع المتعدد، ويعيد الاعتبار لمسيرة متشعبة ومركبة وحافلة، ليس فقط بالكتابة الأدبية والنقدية المجددة والواعية، بل أيضا بنتاج أهم، قوامه هذا الخلف الذي يملأ الساحة الآن أدبا ونقدا وتنظيرا. وهو يحتفي كذلك بتاريخ هذا المشروع الممتد، الذي انطلقت إرهاصاته الأولى مع قصة ‘المعطف البالي’ في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وظل كالمجرى الثابت، بتعبير الراحل إدمون عمران المالح، منتجا ومتواصلا إلى اليوم.
في الواقع، وجب أن يكون أي تكريم بهذا الحجم من واجبات مؤسسات الدولة المركزية في المقام الأول، لا من اهتمامات مواطنين عاديين. فعلى سبيل المثال، كان يفترض بوزارة الثقافة أن تعمل، في هذا الباب، على تكريم أعلام الثقافة المغربية، ممن ساهموا في بلورة أفكار جديدة، وفي إبداع نصوص مبدعة، وفي نشر الثقافة المغربية في الداخل والخارج وتبويئها مكانة محترمة في العالم العربي.
أليس حريا بمؤسسات الدولة هذه أن تهتم، ولو مرة واحدة في السنة على الأقل، بواحدة من هذه الشخصيات البارزة التي كرمت الوطن بعطاءاتها المتميزة، وأن تساهم في ترسيخ النبوغ المغربي الممتد منذ قرون؟ للأسف، لا يبدو الأمر كذلك، بما أن المسؤولين الجدد منشغلون بـ’الترند’، لا بما يبني الإنسان ويعزز المجال الرمزي ويجعل الوطن يضاهي ويباهي الأوطان الأخرى بعطاءات أبنائه.
وبما أن الواقع السياسي الرسمي على هذا النحو، لا يبالي بمن يصنعون قيمنا الرمزية وهويتنا الثقافية، سيكون من اللازم على كل مواطن غيور، وكل هيأة جادة، أن تحذو حذو مختبر السرديات، للثأر من هذه اللامبالاة القاسية تجاه الثقافة المغربية بأشكالها التعبيرية المختلفة.
إننا في حاجة ماسة اليوم إلى هذا الفعل التكريمي ذاته، لتعبئة العدد نفسه من المدن والجمعيات والشخصيات لتكريم آخرين، من رفاق برادة في النقد والأدب، أمثال اليابوري والناقوري ومحمد مفتاح وآخرين، وغيرهم كثر في الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والفنون… لا سبيل للنجاة من سيل سياسة التتفيه والتسطيح إلا التكتل، كما فعل مختبر السرديات. فدرسه هنا مزدوج: درس في الاعتراف، وآخر في النضال الثقافي.