story-0
story-1
story-2
story-3
story-4
story-5
story-6
story-7
story-8
الصوت الواضح |

براءة الطلبة.. ذنب الوزير

ص ص

أصدرت المحكمة الابتدائية بالرباط صباح أمس الأربعاء 22 يناير 2025، حكما كان له وقع البلسم على الجرح، عندما تم النطق ببراءة 27 من طلبة الطب والأطباء الداخليين، كانوا متابعين بتهم تتعلّق بالعصيان وعدم الامتثال لأوامر السلطات والتجمهر غير المسلّح دون ترخيص… على خلفية اعتصام كانوا قد شاركوا فيه في سياق الاحتجاجات المرتبطة بمشروع الإصلاح الذي قرّرته الحكومة ورفضه طلبة الطب.

ومثلما نخرج للتعبير عن الغضب والامتعاض عندما تصدر أحكام قضائية نقدّر أنها غير عادلة أو لا تتناسب مع طبيعة الأفعال أو تنساق لرغبات النيابة العامة أو السلطات، لابد أن نخرج اليوم لننوّه بهذا الحكم الذي جنّبنا جرحا إضافيا في الجسم الحقوقي المثخن أصلا بالجراح.

تنويه لا يعود إلى براءة الطلبة المتابعين من التهم الموجهة إليهم فقط، بل لأن منطق الزجر والعقاب وكسر الإرادة والعناد في تنزيل السياسات والقرارات، لا يؤدي إلى نتائج تذكر من حيث الأهداف المسطّرة.

لقد كاد هذا الملف ينزلق نحو المجهول، وبات في بعض الأوقات أشبه باللغم الاجتماعي الذي أصرّت الحكومة على دفعه نحو التأزيم، لولا التعديل الحكومي الأخير الذي أخرج كلا من وزيري الصحة والتعليم العالي من الموقع التدبيري، لتنتهي الأزمة بشكل شبه فوري.

لكن هل علينا أن نقيم الحفلات ونصفّق لمجرّد أن مظلمة جديدة كانت وشيكة الوقوع لم تحصل؟ ألا يمكننا دفع النقاش العمومي أبعد قليلا من مجرّد حمد الله على عدم وقوع البلاء، والتساؤل عن أسباب وخلفيات ما جرى، وتقييم كلفته، سواء منها المادية أو السياسية، ومن ثم ترتيب المسؤوليات، والحلم، مجرد الحلم، بإنزال العقاب؟

ألا نستطيع، بشكل ذاتي وتلقائي ودون حاجة إلى تدخل ملكي وتشكيل لجان وهيئات تحقيق، أو تكليف المجلس الأعلى للحسابات كما كان الحال مع مشروع “الحسيمة منارة المتوسط”، ومساءلة القائمين على تدبير الشأن العام واتخاذ القرارات؟

لقد تفاقمت أزمة طلبة كليات الطب في المغرب نتيجة مجموعة من العوامل، كان لسياسات الوزير السابق عبد اللطيف ميراوي دور بارز فيها. فأحد أبرز القرارات التي أثارت الجدل، كان هو مقترح تقليص مدة التكوين الطبي من سبع إلى ست سنوات، والذي اعتبره الطلبة مساسا بجودة التكوين الطبي، بينما تبنّاه الوزير ميراوي وأصرّ على تنفيذه، مما زاد من حدة التوتر بين الوزارة والطلبة.

علينا ألا ننسى، ونحن نحتفل اليوم بنجاة 27 من أطر الصحة المغربية من “الوسخ” في سجلاتهم القضائية، أننا عشنا سنة “بيضاء” لم يدخل فيها (تقريبا) طلبة الطب إلى مدرجات الدراسة ومستشفيات ومستوصفات التدريب.

بالإضافة إلى ذلك، شهدت فترة تولي الميراوي للوزارة تأجيلا متكررا للامتحانات وبرمجة مرتبكة لها، اعتبرها الطلبة غير ملائمة، حيث تم تحديد امتحانات الفصلين الأول والثاني في فترة زمنية قصيرة، مما زاد من الضغط على الطلبة وأدى إلى تصاعد الاحتجاجات. بل إن الموضوع كاد يتحوّل إلى أزمة اجتماعية عندما كاد الوزير يتسبّب في تدخلات عنيفة من جانب القوات العمومية ضد الطلبة.

لا يمكن أن “نبتلع” بهذه السهولة هدرا من حجم سنة كاملة من التكوين في واحد من أكثر المجالات خصاصا من حيث الموارد البشرية، ونحتفي اليوم ببراءة الطلبة، كما احتفلنا شهر نونبر الماضي بتوقيع محضر إنهاء الاحتجاجات بين الطلبة والحكومة بعد تعيين عز الدين الميداوي خلفا للميراوي.

لقد سمعنا من الحكومة خلال فترة الإضرابات والاحتجاجات كلاما كثيرا عن الكلفة الباهظة التي يتطلبها تكوين الطبيب في المغرب، والتي قدّرها الوزراء بمليون درهم للطبيب الواحد. وعلينا اليوم أن نعرف من الذي سيتحمّل مسؤولية هذا الخسارة الفادحة، من حيث كلفتها المادية، ومن حيث انعكاساتها المحتملة علي جودة تكوين أطباء الغد، وهذا الجرح الغائر الذي سيواصلون تكوينهم به والذي سيرفع من قابليتهم للرحيل والهجرة إلى عوالم أخرى بمجرّد إنهاء تكوينهم.

إن عناد الوزير السابق، عبد اللطيف الميراوي، كان وراء تعقيد ملف كان يمكن أن ينتهي خلال أيام أو أسابيع. واستسلامنا لمثل هذه الطريقة في إنهاء الأزمات يثير تساؤلات جدية حول غياب المساءلة وربط المسؤولية بالمحاسبة، خاصة عندما يتعلق الأمر بتأثير السياسات والقرارات الحكومية على قطاعات حيوية كالتعليم والصحة.

فعندما تتخذ قرارات جوهرية تمس التكوين الطبي، مثل تقليص مدة الدراسة أو برمجة امتحانات غير ملائمة، دون إجراء استشارات معمقة مع الأطراف المعنية (الطلبة والأساتذة)، فإن ذلك يعكس ضعفا في آليات التخطيط الاستراتيجي والمحاسبة، ويطرح سؤالا مركزيا: لماذا لم تتم مراجعة هذه القرارات بعد أن أظهرت الاحتجاجات الواسعة تأثيراتها السلبية؟

إن الحلقة المفقودة هنا هي عدم وجود آلية واضحة لتقييم فشل السياسات أو نجاحها ومحاسبة المسؤولين عن تداعياتها. ورغم تغيير الوزيرين المسؤولين عن التعليم العالي والصحة، مع ما يعنيه ذلك من إقرار بفشلهما ومسؤوليتهما، لم يتم توضيح من يتحمل المسؤولية عن تفاقم الأزمة.

إن معركة الطلبة الأطباء لم تكن لعب أطفال، بل تسبّبت في تعطيل العملية التعليمية وتراجع جودة التكوين الطبي، مما سيؤدي إلى تكلفة طويلة الأمد على النظام الصحي المغربي. وغياب محاسبة واضحة للمسؤولين يضعف الثقة، المفقودة أصلا، في المؤسسات الحكومية، لأنه يعني بكل بساطة استمرار تكرار الأزمات في المستقبل.