بارونات الماء
حين نعتقد أننا نجحنا في نزع الطابع السياسي عن كل مظاهر حياتنا وأنشطتنا، نفاجأ بالسياسة تسقط علينا من السماء. القطرات التي جاد علينا الله بها في هذه الأيام الأولى من سنة 2024، فعلت ما يفترض أن تقوم به السياسة: بعث الأمل في النفوس.
نعم، في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ما زال المطر فاعلا سياسيا يصنع فرح وقرح المغاربة، أو يساهم فيه على الأقل، لأننا نعلم علم اليقين، وبشهادة العلماء والخبراء، أن ما يهدد بقاءنا اليوم فوق هذه الأرض، ليس المناخ ولا تقلبات السماء، بقدر ما يهددنا جشع وطمع البعض منا.
قد يقول لي قائل إنك تكثر من موضوع الماء وتبالغ في “تسييسه” فلم يسلم منك حتى المطر. والواقع أن المطر يفرض نفسه فاعلا سياسيا محوريا، فيصنع مزاجنا ويحدد معدل نمونا ونسبة بطالتنا وما سيكون عليه عامنا في البيوت والشوارع… أي ما يعادل برنامجا انتخابيا كاملا.
لو كنا مجتمعا “طبيعيا” في تفاعله مع أزماته وقضاياه المصيرية، لكان النقاش السياسي يدور أساسا حول الماء وكيفية الحد من نزيفه والحفاظ على ما بقي منه (إلى جانب مصيبتنا التعليمية). هناك حاجة بقوة الواقع والاقتصاد والطبيعة، لبروز تيارات سياسية “بيئية” تناضل من أجل استرجاع المغاربة لخيراتهم الطبيعية وتحصينها ضد الطماعين الجشعين.
تيارات من فصيلة الخضر الذين ظهروا في السياقات الديمقراطية، وليس الخضر الذين ابتلينا بهم حتى “طليناه اخضر”.
يحتفي بعضنا هذه الأيام بقطف بضعة رؤوس مما يعتبره “بارونات” للمخدرات ورموزا محتملة للفساد والجمع بين المال والسلطة واستثمار عائدات أنشطة إجرامية في الترقي الاجتماعي والوجاهة السياسية وصنع الخريطة الانتخابية… مع العلم أن هؤلاء كلهم في عداد الأبرياء حتى اليوم بنص الدستور وفصول القانون.
يجدر بنا أن نبحث عن بارونات الماء الذين شحنوا خلال السنوات القليلة الماضية الأطنان من المياه، السطحي منها والجوفي، داخل علب في شكل البطيخ بألوانه والطماطم والأعناب… وباعوه في الأسواق الخارجية التي تحرّم قوانين دولها إنتاج هذه الفواكه والخضروات، منها دول حباها الله بطبيعة ومناخ أكثر غنى وسخاء مما قسمه لنا.
لا داعي للحديث هنا عن التشغيل وفرص العمل، لأن الأمر يتعلّق بأنظمة أشبه ما تكون بالسخرة والعبودية، وتعيد إنتاج الفقر والتخلف، وتعفي الدولة من مسؤولية تمكين جزء من الساكنة من نصيبها من التنمية الحقيقية عبر إبقائها داخل غيتوهات الضيعات النائية.
بطيخة واحدة مما كان البعض في السنوات القليلة الماضية يزرعه ويصدره في مناطق معروفة تاريخيا بجفافها وقلة أمطارها، تتطلب ما يناهز طن من الماء، وشحنة واحدة من هذه الفاكهة يتم تصديرها تعادل تصدير سفينة ضخمة من المياه، كنا نراقبها تستخرج من باطن الأرض وتباع ل”البراني”، وتأتي اليوم وزارة الداخلية لتأمر ولاتها وعمالها بحساب عدد اللترات من المياه التي يستهلكها مواطنو كل حي من أحياء المدن، مع خفض صبيب الماء الذي يصل إلى البيوت والتأهب لجعل التزود به متقطعا أن لم يكن نادرا.
بأي منطق نتفرج على كيلوغرام الطماطم الذي يستهلك أكثر من مائتي لتر من الماء، يصدّر إلى الخارج، والكميات بمئات الآلاف من الأطنان، بينما “نحكر” على المواطن الذي فتح باب رزق له ولبضعة عمال عبر غسل أوساخ السيارات ونوقف نشاطه لشهور. أي معنى هذا نعطيه للسلطة وهي تكيل بأكثر من مكيال؟
هناك حاجة ملحة إلى عرض سياسي بيئي يربط المسؤولية عن تدبير الثروة المائية بالمحاسبة ويجرد الحساب ويكشف اللصوص والبارونات الذين سرقوا ماء المغاربة وباعوه للأوروبيين الذين يحمون مياههم، ظاهرها وباطنها، بينما يسقون عروقهم بمياهنا النادرة.
حتى أسطورة مياه البحر ينبغي أن تخضع للنقاش والمساءلة، لأن العملية مكلفة جدا وستجعل حتما، عاجلا أم آجلا، سعر المتر المكعب من الماء الشروب يتضاعف، وهناك جهد عمومي كبير عبر الانفاق من المال العام لتشجيع وتحفيز مشاريع تحلية مياه البحر والمحيط، وعلينا أن نتساءل لماذا علينا أن نضع أيدينا في جيوبنا من جديد ليواصل محترفو تصدير المياه تسمين حساباتهم البنكية؟